الاثنين، 4 يوليو 2016

سلسلة ( شباب صنعوا التاريخ ) 5/ 5: ( ابن أبي زيد القيرواني ـ رحمه الله ـ )

ابن أبي زيد القيرواني ـ رحمه الله تعالى ـ.

          الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فابن أبي زيد ـ رحمه الله ـ، هو الإمام، العلامة، القدوة، الفقيه، عالم أهل المغرب، أبو محمد، عبد الله بن أبي زيد، القيرواني، المالكي ـ رحمه الله تعالى ـ.
ولد هذا الإمام نحو سنة 310 للهجرة، في مدينة القيروان، التي هي مدينة مالكية سنية، كانت مركزاً للعلم والحضارة، إلا أن ولادته وشبابه كانتا في فترة استيلاء العبيديين الفاطميين الملاحدة على هذه المدينة، وكان هؤلاء الباطنيون قد تفننوا في إذاقة أهلها ألوان العذاب، واستفزازهم بأنواع الاستفزازات.
          سلك هذا الشاب المبارك في هذه المرحلة، مسلك الانشغال بما يقدر عليه من الخير، وضبط العواطف في التعامل مع واقعه الأليم، فلم يندفع اندفاع تهور يخسر به دنياه وآخرته، وإنما أقبل على طلب العلم الشرعي، محتسباً صابراً، متأملاً أن يكشف الله عنهم ما حل بهم من كربة.
فكان هذا الشاب متنقلاً بين حِلَقِ القرآن والعلم، آخذاً عن العلماء، مستفتياً ومباحثاً لهم، مدارساً ومذاكراً لأقرانه، منكباً على القراءة والتحصيل، منشغلاً بالعبادة، حتى نبغ بين أقرانه، وشرع في إخراج زكاة علمه: بالتعليم والتأليف.
جلس هذا الشاب النابغة للتعليم في صغره مع مشايخه الذين تلقى العلم عنهم، فكانت له حلقة ـ بين حلق العلماء ـ يعلم فيها الفقه المالكي، في جامع القيروان، الذي هو صرح العلم آنذاك، ومقصد العلماء والطلبة، مع أن سنه حينها كان نحو 20 سنة، يزيد أو ينقص، ومشايخه الذين قرأ عليهم ما زالوا متوافرين، قد عرفوا فضله، وأجلسوه للتعليم بينهم ومعهم، بل إن بعض مشايخه طلب منه أن يؤلف رسالة في الفقه المالكي، لإقراء صغار طلبة العلم: أصولَ الدين وأحكام العبادات والمعاملات وشيئاً من الآداب، فألف رسالته المشهورة بـ ( الرسالة )، أو ( رسالة ابن أبي زيد القيرواني ).
          هذه الحكمة التي تعامل بها إمامنا ابن أبي زيد ـ رحمه الله ـ مع واقعه، حيث ضبط عواطفه، وقادها بشرع الله، بلغ بسببها مبلغاً عظيماً في انتشار علمه، ومعرفة فضله، ساعد على ذلك تغير الأحوال في بلده، فبعد صبر طويل، وضبط للنفس شاق، تخلصت القيروان من الباطنيين سنة 362ه، وعادت الإمارة فيها بعد ذلك تدريجياً إلى أهل السنة المالكية، وكان إمامنا ابن أبي زيد ـ رحمه الله ـ قد بلغ السن التي يتضاعف فيها العطاء، والمكانة التي يشير إليه بها الفضلاء.
ففي مقام التعليم: صار هذا الرجل مقصد العلماء والطلبة، فكان الناس يرحلون إليه من مشارق الأرض ومغاربها، يتتلمذون على يديه، وكان يلقب بـ: ( مالك الصغير )، يقول عنه القاضي عياض ـ رحمه الله تعالى ـ: ( حاز رئاسة الدين والدنيا، ورُحِل إليه من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه ).
وفي مقام التأليف: سارت تواليفه في الأقطار، مسير الشمس في رابعة النهار، وقد ساعد انتشار صيته على انتشار كتبه، قديمها وحديثها، ومنها بل أشهرها على الإطلاق: ( الرسالة )، المشار إليها قريباً، التي كانت أول تآليفه، ألفها وهو ابن 17 سنة، وهذه الرسالة عليها الاعتماد عند المالكية في التفقه إلى يومنا هذا، وما زالت تقرأ في أقطار الأرض في جميع الأزمنة، في حياة مؤلفها، وبعد وفاته التي كانت سنة 386ه، وإلى يومنا هذا، أي: بعد أن مر على وفاته أكثر من 1000 سنة، وقد قرأها وأقرأها جمع من أهل العلم في بلادنا في الإمارات العربية المتحدة، في هذه الأيام وقبلها، وقُل مثل ذلك وأكثر في دول المغرب العربي، فأي مبلغ بلغ هذا الإمام ؟! بل أي علم نشر ؟! وأي إرث ورَّث ؟!، بلغ ذلك بإخلاصه لله ـ عز وجل ـ فيما نحسب، وبحكمته في التعامل مع فتن زمانه ـ فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ـ.
          هذا المشهد العظيم، من مشاهد التاريخ، ذكرني بمشهد قريب منه في المعنى، بعيد منه في الزمن، حصل في زماننا هذا، فقد التقيت في دولة من الدول الإسلامية غير العربية، بمدير مدرسة إسلامية، فأخبرني أنهم في أيام تسلط الملاحدة المستعمرين عليهم، كان الناس يستهجنون رؤية شخص يحفظ القرآن، ويطلب العلم الشرعي، ويرونه رجعياً متخلفاً، لا يعرف مصلحته، ويعرض نفسه للتهلكة، فكان والده يشجعه في صغره على حفظ القرآن وطلب العلم، ويقول له: ( الله يأخذ ويعطي فاستمر )، فلما انتهى من دراسته الجامعية، وشرع في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ، كانت الأمور قد تغيرت، ورجعت البلاد إلى المسلمين، وصار دعاتها وطلبة العلم فيها، هم المثل الأعلى في المجتمع، ونالوا محبة الناس، فعلموهم صلاتهم التي نسوها، وبينوا لهم دينهم الذي كاد أن يندثر، وصار أهل تلك البلاد يتنافسون في إلحاق أبنائهم وبناتهم بهذه المدرسة وأمثالها من المدارسة الدينية.
فمن هنا نعلم، أن التعامل زمن الفتنة بالحكمة، وضبط العواطف، والانقاد لشرع الرب ـ تبارك وتعالى ـ، فيه بركة العاجل والآجل، يجعل الإنسان منشغلاً بما ينفعه وما يقدر عليه من الخير، فيكون في عاجله واجداً ثمرة هذا المسلك، وبركة هذا الطريق، وفي آجله في دنياه ثم في آخرته يجده أعظم وأوفر، وأما من جعل عواطفه قائده في التعامل مع الواقع، واختار لنفسه طريقاً إصلاحياً فيما يحسب على غير منهج النبوة، فاندفع إلى سلوك مسلك المتهورين، وانتهاج منهج الطائشين، في التعامل مع الواقع، فإن عواطفه هذه ستعصف به، فلن يحصل خيراً في الدنيا، وسيحرم نفسه من خير عظيم في الآخرة، هذا إن سلم من الإثم، جزاء ما عارض فيه شرع ربه، وانقاد فيه لهواه، يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )).

عمار سعيد خادم أحمد بن طوق المري

واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ـ نشر هذا المقالة في الملحق الرمضاني في جريدة البيان الإماراتية بواسطة دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي بتاريخ 29 رمضان 1437

السبت، 2 يوليو 2016

سلسلة ( شباب صنعوا التاريخ ) 4/ 5: ( أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ ).

أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ.

          الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
          فالصديقة بنت الصديق أمنا أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ، ولدت هذه الفاضلة في الإسلام، وعاشت طفولتها في كنف والدين مسلمين، ثم تزوجها نبي الأمة محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ قبيل الهجرة بوحي من الله، ولم يدخل بها إلا في شوال سنة اثنتين من الهجرة، بعد غزوة بدر، وهي ابنة تسع سنوات، فكانت زوجته في الدنيا، وهي زوجته كذلك في الآخرة، روى البخاري أن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ )، قال: (( عائشة ))، قال: ( فمن الرجال ؟ )، قال: (( أبوها )).
          وحياة أمنا ـ رضي الله عنها ـ حياة عامرة، مليئة بالخيرات والبركات، والعبر والعظات، فقد أوتيت من الخير والفضل والبر كله، فكانت من خير أهل زمانها، وليس حديثنا في هذه العجالة إلا عن قَبَس من حياتها، وهو المتعلق بما أنزله الله من ( العلم )، الذي أصله وأساسه ومادته: وحي الله، هذا العلم فضلها الله فيه على جميع نساء العالمين، وهو روح هذه الأمة، إذ به تحولت من مرحلة الذل والتشرذم إلى مرحلة العز والتمكين والتآلف، حيث عرف به الإنسان المقصد من خلقه، وهو عبادة الله ـ عز وجل ـ، فسعى إلى تحقيق ذلك في نفسه، ونشره بين الأنام.
          ويمكن أن نقسم حياة أمنا ـ رضي الله عنها ـ بعد فترة الطفولة إلى مرحلتين أساسيتين:
1ـ مرحلة انتقالها إلى بيت النبوة، بدخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها سنة 2 من الهجرة، إلى أن توفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة 11 من الهجرة، أي: أكثر من 8 سنوات.
2ـ مرحلة ما بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إلى أن توفيت ـ رضي الله عنها ـ سنة 57 أو 58 من الهجرة، أي: أكثر من 45 سنة.
فأما الأولى، فهي مرحلة النَّهَلِ من المعين الصافي، معين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والانتفاع به، والتربي والتأدب على يديه، والتخلق بأخلاقه، وتحفّظ علومه التي جاءت من الله، وتفهّمها، مع ما في هذه المرحلة من تبليغ وتعليم للعلم.
وأما الثانية، فهي مرحلة البلاغ والتعليم، بل والمرجعية فيه، وصلت إلى هذه المرحلة وما زالت في أوائل سن الشباب، فكانت أمنا ـ رضي الله عنها ـ الوجهة لكل طالب لعلوم النبوة، والمبينة لأكابر الصحابة ما يشكل عليهم من الوحي.
ففي المرحلة الأولى رأت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعاشت معه، وراقبته بروحها قبل عينيها، وراجعته في كل ما يشكل عليها، حتى إنها تسمع الشيء لا تعرفه أو تمر بالآية فتستشكلها أو تقع لها الواقعة لا تعرف حكم الله فيها، فلا ترتاح حتى تسأل عن ذلك نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ـ ومن أمثلة ذلك: أنها سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عن قول الله ـ سبحانه ـ: (( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون )): ( أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ )، فقال ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ: (( لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات )).
ـ ومن ذلك: ما أخبرت به عن نفسها، قالت: ( جاء عمي من الرضاعة يستأذن عَلَيّ، فأبيت أن آذن له علي حتى أسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألته، فقال: (( إنه عمك، فَأْذَنِي له ))، قالت: فقلت: ( يا رسول الله !، إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل )، فقال: (( إنه عمك فَلْيَلِجْ عليك )).
ـ ومن أمثلة ما يدل على مراقبتها أعماله وأقواله مراقبة دقيقة، وسبرها لأحواله: قولها في وصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ امرأة قط، ولا ضرب خادماً له قط، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم ). أي: لله لا لنفسه.
هذا التعطش للعلم، والطموح للتعلم، واستغلال فرصة مخالطتها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، جعلها في الفقه والفهم: ( أفقه نساء الأمة على الإطلاق )، وجعلها في الرواية من أكثر الناس رواية، حتى بلغ ما روته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألفين ومئتين وعشرة أحاديث ). كما أخبر بالأمرين السابقين عنها مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ، بل قال ـ رحمه الله ـ: ( ولا أعلم في أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها ).
ولهذا وصلت إلى ما وصلت إليه في مرحلتها الثانية، وهي مرحلة المرجعية في العلم والتعليم، والفقه والفتوى، والرأي والمشورة، والنصح والتوجيه.
ـ فعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ، قال: ( ما أشكل علينا أصحابَ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً ).
ـ وسئل مسروق ـ رحمه الله ـ عن علمها بالفرائض ( المواريث )، فقال: ( والله لقد رأيت أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأكابر يسألونها عن الفرائض ).
ـ وكانت مع عموم نفعها لجميع المؤمنين والمؤمنات: تخص النساء بما يصلح لهن من النصائح والتوجيهات، فمن ذلك أنه دخلت عليها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين ! طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها أمنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ( لا آجركِ الله، لا آجركِ الله، تدافعين الرجال ؟! ألا كبَّرتِ ومررت ؟! ). وذلك لعلمها بأن المرأة لا يصلح لها إلا البعد عن الأجانب، وعدم التساهل في الحشمة.
فهذه أمنا أم المؤمنين، مثال لامرأة، حفظت لنا العلم وفهمته، وتمثلت به، وليس أي علم، بل العلم الذي غيّر من طبيعة النفوس التي تلقته، فتحولت إلى نفوس صالحة تقية، طامحة نقية، تريد الخير لنفسها، ولمجتمعها، وإيصال رسالة الخير للبشرية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين ،،،

عمار سعيد بن طوق المري
واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيربي

الإمارات ـ دبي

ـ هذه المقالة نشرت في جريدة البيان الإماراتية 27 رمضان 1437 بواسطة دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي.