الخميس، 19 أكتوبر 2017

منظومة جلاء العينين في بيان الدينين ـ تعريف مختصر

ملاحظة: الكتاب طبع عند دار ابن الجوزي ووزع على المكتبات بحمد الله.
وقد وجدته مرفوعاً حديثاً على الشبكة على هذا الرابط:
http://www.al-tawhed.net/UploadedData/tawhedmedia/hmohasen146/books/mandhomat%20jalaa%203aynayn.pdf


منظومةُ
جَلاءِ العَيْنين في بيانِ الدِّينين

عاش صاحبُها زمنًا من عُمُره على الشِّرْك، ثم هداه الله ـ تعالى ـ إلى التوحيد، على يد أئمةِ الدعوة النجدية السلفية، حينما زار نجدًا في رحلة الحج، سنة 1216ه، فكانت هذه القصيدةُ


تصنيف
العلامة/ حامد بن محمد بن حسن بن محسن
من علماء القرنِ الثالثَ عشرَ الهجري
رحمه الله تعالى



تحقيق وعناية
عمار سعيد بن طوق المري


مقدمة بين يدي التحقيق:
          الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصَحْبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعدُ:
          فمنظومةُ ( جَلاء العَينين في بيان الدِّينين ): منظومةٌ بلغت من الرفعة والجلال، والحسن والجمال: مبلغًا عظيمًا، وارتقت في مصاعدِ الكمال، وحميدِ الخصال: مرتقًى كريمًا؛ فهي منظومة: يطرَب قلبُ القارئ الواعي بقراءتها، وتشتاقُ نفسُه إلى إدمان النظر في أبياتها، ويلتذُّ سمعُه بوَقْع حروفها وكلماتها[1]؛ صنَّفها العلامةُ الجليل، والفاضل النبيل/ حامد بن محمد بن حسن بن محسن ـ رحمه الله تعالى ، وجعل جميعَها في بيان الدِّينين، اللَّذين بَعَث اللهُ لأجْلِ بيانِهما والتفريقِ بينهما الأنبياءَ، واصطفى لسلوكِ سبيلِهم العلماءَ والأولياءَ، وهذان الدينان هما: توحيدُ الله ـ عز وجل، ونقيضُه الذي هو الشِّرْك بالله ـ سبحانه.
وهذه المنظومة البديعة جعَلها ناظمُها ـ رحمه الله ـ في ( 1251 ) بيتًا، ورتَّبها ترتيبًا بديعًا، ونوَّع بحورها وقوافِيَها تنويعًا فريدًا، وجعل كل بيت منها ناشئًا عن معاني أدلة الوحيين الشريفين: كتابِ الله ـ عز وجل ، وسنةِ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم [2].
          وإنَّ مِن إكرام الله ـ تبارك وتعالى ـ وجزيلِ إنعامه: أن وفَّق عبدَه محققَ هذا الكتاب، إلى الاعتناء به: كتابةً، وضبطًا، وتعليقًا، وتقديمًا، وطباعةً؛ فلا شيءَ أبدًا أعلى وأجلُّ من أن تكون حياةُ المرء في الدعوة إلى ما أَرسَل اللهُ لأجله الرسلَ، وأنزل من أجْلِ بيانه الكتبَ، وجَعَلَ لأهله السالكين فيه جنةَ النعيم، وأعدَّ لأعدائه المشاقِّين له نارَ الجحيم؛ وهو: توحيدُ الله ـ تبارك وتعالى ، فلك الحمدُ ربَّنا كما تُحب وترضى، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، لك الحمدُ حمدًا حمدًا، ولك الشكرُ شكرًا شكرًا، وأصلِّي وأسلِّمُ على نبينا ورسولنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين[3].
                                                          عمار سعيد بن طوق المري ـ الإمارات ـ دبي[4]
تمهيد:
الحمدُ لله الذي يهدي إلى سَواء السبيل، ويوضح الحق من الباطل بأجلى دليل، وينعم على عباده بالخير الكثير الجليل، ويعطيهم بفضله العطاءَ الجزيل، والصلاةُ والسلام على مَن أنار اللهُ به الظلماتِ، وكشف برسالته عن الأمة المدلَهِمَّات، فأنقذنا به من الشرك وشِراكِ الضلالة، وعلَّمنا على لسانه بعد غَيٍّ وجهالة، فصلاةُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعدُ:
فإن العلامة الجليلَ الشيخَ حامدَ بن محمد ـ رحمه الله ورضي عنه ـ من علماء القرن الثالثَ عشرَ الهجري: قد أوتي ذكاء وزكاء، وفهمًا وعلومًا، وسمعًا وبصرًا صالحَين، وفؤادًا مستنيرًا بنور الوحيين، آتاه الله ـ عز وجل ـ بسطة في العلم، وتوقدًا في الفهم، وأعطاه نصيبًا وافرًا من الحكمة، ووهبه نصحًا للخلق ورحمة؛ اقرأ ـ إن شئت ـ كتابَيه المحفوظَين له[5]: تجدْ فيهما علمًا محقَّقًا، ونقلًا موثَّقًا، ورغبة في الخير، ونصحًا للخلق، يلحظُ الناظر في كتابيه: تضلُّعَه في التوحيد، ونظره في التفسير واللغة وغيرها من فنون العلم.
هذا العالم العلامة؛ كان يومًا من الأيام على الشرك؛ يعبدُ أنواعًا من المعبودات، فيصرفُ لها أنواعًا من العبادات، في بلد استَحكَم فيه الشركُ، واستأثر بالناس علماءُ الضلالة، فأضلُّوهم عن سبيل الله، الذي جاء في القرآن، وجاء به نبيُّنا محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه.
أخذ هذا الرجلُ؛ الذي أحاطت به الجهالاتُ، ووقع في أصناف من الضلالاتِ؛ يتلمَّس الهدى، ويتساءل: أين هو ؟! وبدأت نفسُه تشتاقُ إلى بيت الله الحرام، وتحدثُه أن يرحل إليه؛ فعزم على الرحيل إليه فرحل، وكانت في هذه الرحلة هدايتُه.
ففي هذه الرحلة؛ سأل عن الهدى: أين يجدُه ؟ وعن الصراط المستقيم: من يدلُّه عليه ؟ فأشير عليه بأن يرحل إلى نجد؛ فإن بها صفوةً قد جدَّدت معالم الدين، وكشفت للناس عن هدي سيد المرسلين ـ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ بعد أن أخفاها عنهم أهلُ الأهواء المبتدعون.
فانطلق إليهم، راغبًا في معرفة ما لديهم، فدخل ينظرُ متأملًا في حالهم وقالِهم متفحصًا، ويباحث متجردًا عن الهوى متخلصًا، فوجد قلبه بين أيديهم، ورُوحه وحياته لديهم، فخرج من عندهم حاملًا معه من علومهم، داعيًا لهم ومثنيًا عليهم.
هذه الرحلة النجدية، التي كانت في سنة ( جا غريب )، أي: سنة ( 1216 ه )، كانت النقلةَ التي غيرت مجرى حياته، فتحول إلى محب معظمٍ مبجِّل للدعوة السلفية، أعني الدعوةَ إلى توحيد الله ـ تبارك وتعالى ـ واتباعِ سنة نبيه محمد ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ كما فهِمه السلف الصالحون، وسار عليه الأئمةُ المتبِعون المتبَعون، فكانت هذه الدعوةُ شمسًا أنارت بعد ظلام دامس، وأشرقت بعد ليل طويل.
لم يكتفِ هذا الرجلُ الذي وجد طريقه بما هو فيه؛ بل استمر في الترقِّي في مدارج التلقي عن الوحيين، حتى بلغ في العلم شأوًا عظيمًا، وسعى في نشر هذا الهدى الذي تعلمه نشرًا عميمًا، فدعا إلى الله ـ عز وجل ـ على بصيرة، ونصح الخلق بصفاء ـ فيما نرجو ـ وصلاحِ سريرة، فكان في تراثه كتاباه الجليلان: (فتحُ الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد)، ومنظومة (جلاء العينين في بيان الدِّينين)، وهو كتابُنا هذا الذي بين يديك.
ألَّف هذا النظمَ الجليل، في بيان التوحيد والشرك، فسمَّى كلًّا منهما: دِينًا؛ فالتوحيدُ دينٌ تدينُ به الأنبياء وأتباعُهم، والشرك دين تدينُ به خصومُهم وأعداؤهم، فميَّز التوحيد من الشرك تمييزًا بديعًا، وحقَّق في هذا السلك المنظومِ تحقيقًا رفيعًا، وأبدى فيه النصحَ وأعاد، ووعظ السالكين غيرَ سبيل الرشاد، وقصف أهلَ الشرك والعناد.
فانظر في هذا النظم البديع المزهر، والسبك الفريد المبهر: تجدْ ما قدمتُه لك من توصيفٍ جليًّا بين أسطُره، وواضحًا في كلماته، بل إنك ستشعر بأن الناظمَ يتكلمُ بقلبه، وأنك تسمع كلامه بقلبك.
وانظر إليه في نظمه هذا: يذكر ـ عن نفسه وقومه ـ طغيانَهم، وصدودَهم، وإعراضَهم عن سلوك سبيل الهدى والرشاد، واتباعَهم طريق أهل الغَواية والفساد، فاستمع إليه يصفُ هذا الحال الشنيع الشنيع، والمسلك الفظيع الفظيع، فيقول:
تُقَابِلُهُ[6] بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغَى
وَفِعْلِ الْمَعَاصِي بِالْهَوَا وَالْخَمَائِلِ
نُسَوِّي بِهِ خَلْقًا فَيُعْبَدُ دُونَهُ
وَنَدْعُوهُ جِدًّا لَيْسَ ذَا بِالتَّهَازُلِ
فَكَمْ رَاكِعٍ بِالذُّلِّ تَلْقَاهُ خَاشِعًا ؟!
وَكَمْ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ مَرْجَى النَّوَائِلِ ؟!
وَكَمْ سَاجِدٍ تَلْقَاهُ فِي النَّوْحِ عِنْدَهُ ؟!
وَكَمْ عَامِلٍ مِنْ حُبِّهِ فِي التَّعَامُلِ ؟!
مَعَابِيدُنَا شَتَّى: قُبُورٌ، وَمَا بُنِي
عَلَيْهَا، وَسَادَاتٌ شُيُوخُ الْأَبَاطِلِ
وَمَوْتَى، وَأَشْجَارٌ، مَهَابِيلُ دَارِنَا
عُرَاةٌ كَمِثْلِ الْبَهْمِ، صُمُّ الْجَنَادِلِ
وَكَمْ غَيْرُهَا مَا لَيْسَ لِي عَدُّهَا، وَلَا
يُقَالُ لِيَأْتِي عَدُّهَا فِي التَّقَاوُلِ[7]

ويذكرُ عن نفسه وقومه هذه الحالَ في نظمه مرارًا، ويكررُ ذلك تَكرارًا، فيعيد الوصف ويبديه، مستنكرًا له استنكارًا جليًّا لا يخفيه.
نَدْعُو: تُرَابًا، قُبَّةً، جِنًّا، وَمَا
فِي الْأَرْضِ، مَدْفُونٌ بِهَا، خَنَّازُ
أَمْلَى عَلَيْنَا ابْلِيسُ مَا زَادَتْ عَلَى
عَدٍّ؛ فَلَا بُورِكْتَ مِنْ طَنَّازِ
كُنَّا تَرَكْنَا الْحَقَّ، كَالْعَشْوَا لَنَا
خَبْطٌ، عَلَى الْأَجْبَالِ وَالْأَقْوَازِ
نُوْذَى عَلَى ذَا، مَا نُبَالِي بِالَّذِي
يَجْرِي عَلَيْنَا، لَوْ مِنَ الْأَلْكَازِ[8]


فيكشفُ حقيقةَ ما عاشوا عليه، ويستشعرُ شناعةَ ما سلكوا إليه.
وَإِلَّا زَمَانًا فِي الضَّلَالَةِ نَسْتَعِي
فَنَأْتِي إِلَى قَبْرٍ فَنَرْجُوهُ نَخْشَاهُ
وَنَخْضَعُ دُونَ الْقَبْرِ نَسْجُدُ نَلْتَجِي
إِلَيْهِ بِكُلِّ الْأَمْرِ فِيمَا سَلَكْنَاهُ
ظَنَنَّا لَهُ فِي الْأَمْرِ حُكْمًا، وَإِنَّنَا
لَفِي وَثْقَةٍ مِنْهُ، لِهَذَا عَبَدْنَاهُ
وَكُنَّا نَسِينَا مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ
وَمَنْ لَمْ يُدَبِّرْ أَمْرَنَا غَيْرُ إِيَّاهُ[9]

وانظر إلى الناظم ـ مِن مرآة نَظْمه ـ وهو يطلبُ الهدى ويسأل عنه، ويريد من الله أن يوفقَه إليه، ثم يشكرُ الله على ما منَّ به عليه.
وتأملْ فيه ـ كذلك ـ كيف وصف رحلتَه النجدية، التي كانت فيصلَ حياتَيْه: حياةِ السعادة، وحياةِ الشقاوة، وانظر كيف أثنى على أئمتها؛ فذكر: صلاحَهم، وقيامَهم بالحق، ورحمتهم بالخلق، وأبرزَ في نظمه هذا ما هُم عليه من لُطف الدعوة وسمو الأخلاق، وبُعد عن الغلظة والفظاظة والشقاق.
واقرأ إن شئت هذه الأبياتَ المنتخَبة، تلخِّصْ لك الحالة التي كانت له مرتقبة، ثم دخوله فيها، واغتباطه بها:
فَسَاءَلْتُ مَنْ نَلْقَى عَلَى كُلِّ مَنْزِلٍ
لَعَلِّيَ أَسْلُو بِالْمَكَانِ الَّذِي يُحْوَى
فَقِيلَ لَنَا: نَجْدٌ، بِهِ الْمَطْلَبُ الَّذِي
تُرِيدُونَ، أَرْضًا تَبْلُغُ الْغَايَةَ الْقُصْوَى
فَسِرْنَا زَمَانًا، وَاطَّوَيْنَا فَرَاسِخًا
إِلَى أَنْ وَصَلْنَا مَسْكَنَ الدِّينِ وَالْمَأْوَى
وَتَارِيخُ هَذَا: ( جَا غَرِيبٌ )[10]، وَإِنَّ ذَا
مِنَ الْمَهْجَرِ الْمَعْرُوفِ فِي الْعُرْفِ هِي تُنْوَى
فَلَمَّا أَنَخْنَا الْعِيسَ مَا مِنْ رِكَابِنَا:
قَصَدْنَا فِنَاءَ الدَّارِ بِالنَّفْسِ وَالْجَفْوَى
فَلَمَّا نَزَلْنَا الدَّارَ وَانْحَلَّ كَرْبُنَا
أَفَادَتْ يَدَاهُ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَهْوَى
فَأَوْلَى عَلَيْنَا رَبُّنَا بِوِصَالِهِ
فَكَانَ لَنَا أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى
فَأَوْرَدَنَا مِنْ فَيْضِ أَفْضَالِهِ: الْهُدَى،
وَنَرْجُو لَنَا الْجَنَّاتِ مِنْ فَضْلِهِ مَأْوَى
نَظُنُّ رَجَاءً أَنْ يُصَيِّرَنَا بِهَا
وَنَدْعُو: إلَهِي ! الظَّنُّ وَالْقَصْدُ وَالرَّجْوَى
وَهَذَا ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ مِنْ فَضْلِ رَبِّنَا
وَإِلَّا نَرَى الْإِسْلَامَ مِنْ قَبْلُ بِالدَّعْوَى
نُعَامِلُ رَبَّ الْعَرْشِ بِالشِّرْكِ ـ دَهْرَنَا ـ
وَنَشْكِي إِلَى الْمَخْلُوقِ مِنْ خَالِقِ الْبَلْوَى[11]
وَنَطْلُبُهُ فِيمَا لَنَا مِنْ حَوَائِجٍ
وَنَقْصِدُهُ فِي الْخَيْرِ وَالضُّرِّ وَالشَّكْوَى
فَنَسْجُدُ نَدْعُوهُ، وَنَنْذِرُ نَرْتَجِي
وَنَطْلُبُ مِنْهُ الْأَصْلَ وَالْفَصْلَ وَالْمَحْوَا
فَقُمْ صَاحِبِي للهِ، فِي اللهِ، وَاسْمَعًا
كَلَامَ الَّذِي قَلْبِي بِتِبْيَانِهِ يُدْوَى =
وَيُهْدَى، النَّبِي الْهَادِي إِلَى كُلِّ حِكْمَةٍ
وَغَيْرُهُمَا فِي الدِّينِ وَالْحَقِّ مَا يَسْوَى =
بِفَلْسٍ، سِوَى الْمَوْزُونِ إِنْ كَانَ وَاقِفًا
فَخُذْهُ إِذَا لَمْ يَخْلِطِ الْكَدَرُ الصَّفْوَا
وَأُعْبُدْ إِلَهًا أَنْشَأَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ
وَأُسْلُكْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالشَّرْعِ لَا تَغْوَا
وَإِيَّاكَ وَالْإِشْرَاكَ، وَاللهِ مَنْ مَشَى
عَلَيْهِ لَيَصْلَى النَّارَ، مَا لَيْسَ هُو يَقْوَى
إِلَهِي ! هَوِيتُ الدِّينَ، بِالدِّينِ قَانِعٌ
وَرَاضٍ؛ وَلَوْ حَمَّلْتَنِي فِي الْهَوَى رَضْوَى
فَثَبِّتْ ـ إِلَهِي ! ـ فِي الْهُدَى قَلْبِيَ الشَّجِي
فَإِنَّ عِنَانِي نَحْوَ غَيْرِكَ لَا يُلْوَى
سَكِرْتُ بِحُبِّ الدِّينِ وَالْحَقِّ وَالْهُدَى
فَهَا أَنَا حَتَّى الْحَشْرِ لَا أَعْرِفُ الصَّحْوَا
وَغُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ ! يَا غَايَةَ الْمُنَى !
عَلَى عَبْدِكَ الْمِسْكِينِ بِالْفَضْلِ، وَالْعَفْوَا
وَأَيْضًا لِمَنْ قَدْ بَيَّنَ الْحَقَّ ـ وَقْتَنَا
بَعِيدٍ عَنِ الْفَحْشَا قَرِيبٍ مِنَ التَّقْوَى
يَبِيْتُ وَيُضْحِي سَاهِيًا عَنْ سِوَى الْهُدَى
وَعِزَّةِ رَبِّ الْعَرْشِ لَا يَعْرِفُ السَّهْوَا
وَأُنْصُرْ نَصِيرَ الدِّينِ مَنْ كَانَ ـ دَهْرَهُ ـ
يُلَاحِظُ عِزَّ الدِّينِ، يُسْرِعُ بِالْخطْوَى[12] [13]

فهذا هو الطريق العتيق الجديد: عتيقٌ في الواقع؛ لأنه الطريق المستقيم المسلوك لجميع أهل الحق، جديدٌ عليه هو؛ لأنه لم يهتدِ إليه إلا بعد أمد بفضل من الإله الحق، فرآه بعيني قلبه، فأخذ بلُبِّه، واستقام عليه.
رَأَيْنَا لِبَاسَ الدِّينِ وَالْحَقِّ وَالتُّقَى
فَقُلْنَا: بِكَمْ ؟! قُولُوا ! فَإِنَّا شَرَيْنَاهُ
شَرَيْنَا نَسِيجَ الدِّينِ مِنْ بَعْدِ مَا عَرَتْ
مِنَ الْحَقِّ نَاسٌ، بَعْدَ هَذَا لَبِسْنَاهُ
نُوَيْرُ الْهُدَى مُحْيِي الْقُلُوبَ مُفَرِّحٌ
وَمَا خِرْتُهُ لَوْلَا إِلَهِي وَلَوْلَاهُ
سَلَكْنَاهُ، نِعْمَ السَّيْرُ ذَا السَّيْرُ دَائِمًا
نَسِيرُ بِحُبِّ الدِّينِ، هَذَا سَلَكْنَاهُ
لَكَ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقَهْرُ ـ رَبَّنَا ! ـ
فَمَنْ شَاءَ أَبْقَاهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْنَاهُ
وَإِنْ شَاءَ أَمْرًا قَالَ كُنْ فَهْوَ مُسْتَوٍ
عَلَى مَا أَرَادَ اللهُ فِينَا حَمِدْنَاهُ
قَصَدْنَا طَرِيقَ الْحَقِّ بِالشَّرْعِ مَا أَتَى
بِهِ سَيِّدٌ خَيْرُ الْبَرَايَا أَطَعْنَاهُ
فَهَذِي فِعَالُ الرَّبِّ ـ سُبْحَانَهُ ـ وَهُو
كَرِيمٌ جَوَادٌ، وَجْهَهُ قَدْ عَنَيْنَاهُ
فَيَا رَبِّ ! ثَبِّتْنَا؛ أَمِتْنَا فَأَحْيِنَا
عَلَى دِينِكَ التَّوْحِيدِ مَا قَدْ عَرَفْنَاهُ
وَإِغْفِرْ لَنَا مَا قَدْ جَرَى مِنْ ذُنُوبِنَا
وَأَنْعِمْ عَلَيْنَا بِالَّذِي كُنْتَ تَرْضَاهُ[14]

حَمِدْتُكَ ـ يَا رَبِّي ! ـ وَأَنْتَ الْمُمَجَّدُ
وَمَا دُمْتُ حَيًّا كُنْتُ إِيَّاكَ أَعْبُدُ
لَأَحْيَيْتَنَا مِنْ بَعْدِ مَوْتٍ، وَإِنَّهَا
حَيَاةُ قُلُوبٍ كُلَّ يَوْمٍ تَجَدَّدُ
فَنَوَّرْتَهَا ـ اللَّهُمَّ ! ـ بِالدِّينِ، حَبَّذَا
كَرِيمٌ، فَمَنْ أَسْعَدْتَهُ كَانَ يَسْعَدُ
سَعِدْنَا لَعَمْرُ اللهِ بِالدِّينِ، بَعْدَمَا
شَقِينَا زَمَانًا، مَا لَنَا فِي الْهُدَى يَدُ
هُدِينَا وَرَبِّ الْبَيْتِ بِالْوَصْلِ، يَا لَهُ
وِصَالًا وَرَا الْهِجْرَانِ، للهِ نَسْجُدُ[15]

وانطلق الناظمُ بعد هذه الهداية الإلهية، والـمِنَّة السماوية، إلى الدعوة إلى التوحيد، وسلوك مسلك التجريد، ومحاربة التنديد، ورفض عبادة العبيد للعبيد، فتارةً يُثني على الله ـ عز وجل ـ بأنواع الثناء؛ ليبيِّن أنه وحدَه المستحقُّ للعبادة والدعاء، وتارةً يذمُّ الشرك وأهلَه، ويقبِّح طالِعَه وشكْلَه، وتارةً يحاجُّ المشركين المعاندين، بحجج ترعُد وتبرُق، وتميز بين الدِّينين وتفرق.
فليس في صريح المنقول، ولا صحيحِ المعقول: أن يُعبد غيرُ الله ـ عز وجل ـ مع أنه ـ سبحانه ـ الخالقُ وحده، الرزَّاق وحده، المدبرُ وحده.
أَيُنْسَى الْغَنِي يُرْجَى الْفَقِيرُ ؟! أَمَنْ عَمِي
يُرِيدُ مِنَ الْأَعْمَى الَّذِي هُوَ شَارِعُ ؟!
أَلَيْسَ تَرَى رَبَّ السَّمَا خَالِقَ الْوَرَى
مَلِيكًا، وَكُلُّ الْخَلْقِ للهِ خَاضِعُ ؟!
لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، لَهُ الْعِزُّ وَالْبَقَا،
وَمَا دُونَه للهِ فِي الْكَوْنِ خَاشِعُ
هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ذُو الْعَرْشِ لَمْ يَزَلْ
هُوَ الصَّمَدُ الْقَيُّومُ بِالْفَضْلِ وَاسِعُ
هُوَ الْقَادِرُ الْعَدْلُ الَّذِي لَيْسَ مِثْلُهُ
سِوَاهُ عَبِيدٌ مَا بِهِمْ مَنْ يُدَافِعُ
لَهُ الْفَضْلُ وَالْإِكْرَامُ وَالْعَفْوُ دَائِمًا
هُوَ الْأَحَدُ الْمَعْبُودُ، لِلْكَوْنِ صَانِعُ
حَكِيمٌ، قَدِيرٌ، عَالِمٌ، حَيُّ، مَالِكٌ
سَمِيعٌ، بَصِيرٌ، لِلَّذِي كَانَ نَافِعُ
مُعِزٌّ، مُذِلٌّ، خَافِضٌ، وَهْوَ رَافِعٌ
هُوَ الْعَالِمُ الْعَلَّامُ لِلشَّرْعِ شَارِعُ
فَقِيلَ: أَصَبْتَ الْحَقَّ فِي الْقَوْلِ، فَاسْتَقِمْ،
وَنَدْعُو الَّذِي فِي حُكْمِهِ لَا يُنَازَعُ
وَنَطْلُبُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا ذَكَرْتَهُ
لَمِنْهُ عَلَيْنَا الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ هَامِعُ
يُوَفِّقُ مَنْ يَبْغِي بِعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ
وَيَرْفَعُ مَنْ مِنْ أَجْلِهِ يَتَوَاضَعُ[16]

فَسُبْحَانَ مَنْ يُورِي عَطَايَاهُ آيَةً
لِيُعْبَدَ، لَا مَنْ أُرْكِبَتْهُ الْفَوَاجِعُ
أَيُعْبَدُ غَيْرُ اللهِ فِي الضُّرِّ وَالْبَلَا ؟!
وَيُشْكَرُ مُحْتَاجٌ مِنَ الْجُوعِ خَافِعُ ؟!
وَهَلْ يُعْبَدُ الْمَخْلُوقُ وَاللهُ خَالِقٌ ؟!
وَهَلْ يُشْكَرُ الْمَرْزُوقُ ؟! يَا قَوْمِ !، سَامِعُوا
لَهَذَا كَمَالُ الظُّلْمِ فِي حَقِّ رَبِّنَا
وَمَا ذَا مِنَ الْإِنْصَافِ، ذَا الْحُكْمُ ضَالِعُ
وَذَا قَدْ جَرَى فِينَا، وَمُكِّنَ أَصْلُهُ
لِأَنَّا عَنِ الْوَحْيَيْنِ كُنَّا نُقَاطَعُ
وَوَصْلُ الْهُدَى وَالْهَدْيِ قَدْ قُطَّ حَبْلُهُ
بِحَبْلِ الْهَوَى وَالرَّأْيِ، كُنَّا نُطَامِعُ[17]

وفي أثناء تسطيره للأبيات، ورَصْفه للكلمات؛ يتذكر بين مدة وأخرى علماءَ السوء والجهالة، والمكر والضلالة، الذين أضلوهم عن الدليل، ودلُّوهم على جهنمَ من أقرب سبيل، وأوهموهم أن ما هم عليه هو طريق الجنات، وإرضاءُ رب الأرض والسماوات؛ فيتغيظُ عليهم تغيظًا لن يخفى عليك، فلَكأنك تراه: وقد اشتدت زَفَراته، وعلت نَبَراته، واحمرت عيناه، وانتفخت وجنتاه؛ وهو يدعو عليهم دعاء الحَنِقِ المظلوم، ويتمنى لهم تعجيلَ الهلاك المحتوم، لتسلمَ الخليقة من شرورهم، وتصفوَ في الحق نفوسُهم، ولا ملامة عليه ولا عتاب، فقد كادوا لَيُردوه، وفي سَواء الجحيم يُحضروه.
فَيَا رَبِّ دَمِّرْ عَالِمَ السُّوءِ، إِنَّهُمْ
يَصِيدُونَ جُلَّ النَّاسِ هُمْ بِالْحَبَائِلِ
لَقَدْ تَرَكُوا الْوَحْيَيْنِ فِي الدِّينِ وَاغْتَنَوْا
بِمَا جَا مِنَ الْآرَاءِ أَوْ مِنْ مُخَاتِلِ
فَضَلُّوا أَضَلُّ الْخَلْقَ يَا لَيْتَهُمْ فَنُوا
بِسَهْمٍ سَهِيمٍ فِي الْكُلَى فِي الشَّوَاكِلِ
ذِئَابٌ كَلَابٌ هَمُّهُمْ فِي التَّنَابُحِ
بِشِرْكٍ وَكُفْرٍ، بِئْسَ هُمْ فِي الْقَبَائِلِ
عَمُوا، وَادَّعَوْا فِي النَّاسِ فَضْلًا، وَإِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَا، كُلٌّ عَنِ الْحَقِّ مَائِلُ
لَهَمْ قَوْلُ سُوءٍ فِي الضَّلَالَةِ وَالشَّقَا
وَأَخْبَثُ فِعْلٍ، إِنَّهُمْ مِنْ حَسَاكِلِ
يَقُولُونَ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ فِي الْهُدَى
مِنَ الدِّينِ؛ قَطُّوا مَا لَهُ مِنْ وَسَائِلِ
مَجَانِينُ دَارِ الشِّرْكِ يَا لَيْتَ زُيِّدُوا
مِنَ الْمَسِّ زَوْ[دً]ا، إِنَّهُمْ فِي الْأَرَاذِلِ
فَلَا بَارَكَ الْمَعْبُودُ فِيهِمْ، وَلَا بِهِمْ
هُمُ الشَّرُّ فِي الدُّنْيَا، ضَرِيرُ الْغَوَافِلِ
لَقَدْ لبَّسُوا الْأَجْسَادَ لُبْسًا، وَإِنَّهُمْ
عُرَاةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ، شِبهُ الْخَثَاعِلِ
فَهَذِي شُيُوخُ الْكُفْرِ وَلَّتْ، وَبَعْدَهُمْ
لَصِدْنَا الْهُدَى وَالْحَقَّ صَيْدَ الْأَجَادِلِ[18]

فهذه حالُه قد وصفها هو لك في نظمه، وأما نفسُ هذا النظم؛ فقد وصفه لك في مقدمته، ثم وصفه لك في خاتمته.
وَبَعْدُ: فَذِي أَلْفِيَّةٌ قَدْ نَظَمْتُهَا
مُبَيِّنَةٌ لِلدِّينِ لَا الْعُشَقَاءُ
وَقَدْ نُزِّهَتْ عَنْ ذِكْرِ عِشْقٍ وَأَهْلِهِ
وَمَدْحِ الْمَوَالِي أَوْ مَنِ الوُزَرَاءُ
جَلَاءً لِعَيْنَيْ كُلِّ مَنْ قَدَّرَ الهُدَى
فَإِنَّ اسْمَهَا لِلْعَيْنِ ـ صَاحِ ! ـ: ( جَلَاءُ ) [19]

لَقَدْ خُتِمَتْ أَلْفِيَّتِي فِي بَيَانِ مَا
رَأَيْتُ زَمَانَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مَاضِيَا
وَمَا جَاءَنِي مِنْ بَعْدِ هَذَا مُنَوِّرًا
قُلُوبَ الْوُلَا، يَا نِعْمَ مَا كَانَ كَافِيَا
وَذَا نِعْمَةٌ مِنْ فَضْلِ رَبِّي عَلَى الَّذِي
رَآهُ بِعَيْنَيْ قَلْبِهِ لَنْ يُبَالِيَا
ذَكَرْتُ الْأَلِفْ وَالْبَا وَتَاهَا وَثَائِهَا
كَذَا كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ التَّهَاجِيَا
لَقَدْ عُدِّدَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ هَكَذَا
مَنَاظِيمُهَا كَانَتْ بِهَا قَدْ تسَاويَا
وَمَا قُلْتُ فِيهَا ذِكْرَ مَجْنُونِ عَصْرِهِ
وَلَا ذِكْرَ لَيْلَى وَالْمُلُوكَ الْعَوَالِيَا
سِوَى أَنَّنِي بَيَّنْتُ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ
مِنَ الْفَرْقِ مِنْ دِينَي مُحِقٍّ وَطَاغِيَا
فَنَاظِرْ بِنُصْحٍ لَا تُنَاظِرْ بِغَيْرِهِ
تَرَى كُلَّ بَيْتٍ عَنْ دَلِيلٍ لَنَاشِيَا =
نَشَا عَنْ مَعَانٍ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ
هُمَا نُورُ أَهْلِ الْحَقِّ حَازَ الْمَعَالِيَا[20]

واعلم ـ حفظك الله ـ أني قد ارتجلتُ في انتقاء الأبيات السابقات، فلم أنتزعْ لك من الكتاب لُبابَه؛ لئلا أُذهِبَ على قارئه رونقَ النظم وشبابَه، بل ستجدُ فيه ما يماثلُ ما انتقيتُه لك ويضاهيه، بَلْهَ ما يفوقُه ويرتقي عليه، وقد تخفَّفت هنا من إيراد التعليقات على الأبيات، لأنها مُثبتةٌ في محالِّها فارجع إليها إن شئت.



[1] على نوع عدم تمرس في النظم، وتكرر أخطاء في أنواع من علوم اللغة، يأتي بيانها في المقدمة ـ بإذن الله.
[2] انظر البيت: 1246، 1247.
[3] وأحب أن أشكر في هذا المقام: الشيخ المكرم أبا مالك العوضي ـ وفقه الله لكل خير، الذي دقق هذا الكتاب من الناحية اللغوية، كما أحب أن أشكر كل من أفادني بفائدة، أو نفعني بكلمة، فشكر الله لهم جميعًا.
[4] حاصل على:
ـ الشهادة الجامعية في الحديث الشريف من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ـ الماجستير:
1ـ أصول الدين من جامعة القصيم بالمملكة العربية السعودية.
2ـ المهني التنفيذي في المالية الإسلامية من المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية بمملكة البحرين.
ـ واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي حاليًّا.
AMBINTOUQ2020@HOTMAIL.COM
[5] فتح الله الحميد المجيد، وكتابنا هذا، وسيأتي بسطُ التعريف بهما ـ بإذن الله.
[6] بالتاء، تتمة الخطاب قبله، ثم انتقل إلى التكلم من البيت بعده.
[7] الأبيات: 972 ـ 978.
[8] الأبيات: 433 ـ 436.
[9] الأبيات: 1136 ـ 1139.
[10] تحت الكلمة: 1222. وهذا على طريقة حساب الجُمَّل. وقد حسَبتُه فوجدته: 1216، وذلك أن الجيم: 3، والألف: 1، والغين: 1000، والراء: 200، والياء: 10، والباء: 2. فمجموع ذلك: 1216.
[11] فيه ملحظ عقدي ترى التنبيه عليه في موضعه.
[12] فيه ملحظ عقدي تجد الإحالة عليه في موضعه.
[13] الأبيات: 1102 ـ 1126.
[14] الأبيات: 1156 ـ 1165.
[15] الأبيات: 303 ـ 307.
[16] الأبيات: 726 ـ 736.
[17] الأبيات: 752 ـ 757.
[18] الأبيات: 979 ـ 989.
[19] الأبيات: 3 ـ 5.
[20] الأبيات: 1239 ـ 1247.