الاثنين، 27 يونيو 2016

سلسلة ( شباب صنعوا التاريخ ) 3/ 5: ( الإمام النووي ـ رحمه الله ـ )

الإمام النووي ـ رحمه الله ـ.
         
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن إمامنا الإمام النووي، أبا زكريا يحيى بن شرف ـ رحمه الله ـ: إمام عظيم بلغ المنزلة العالية في قلوب الناس، خاصتهم وعامتهم، يقول عنه التاج السبكي ـ رحمه الله ـ: ( شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين ). ويقول عنه مؤرخ الإسلام الذهبي ـ رحمه الله ـ: ( وكان أوحد زمانه في الورع، والعبادة، والتقلل، وخشونة العيش، والأمر بالمعروف ).
كانت حياة هذا الإمام عجباً من العجب، فقد كان عالي الهمة شريفها، مثابراً في العلم وتحصيله، والعمل به وتعليمه، والتصنيف فيه، فبلغ مبلغاً عظيماً، حتى عرفه عامة الناس إلى زماننا هذا، وما زال الناس ينتفعون بعلمه، ولا يكاد بلد من بلدان العالم فيه مساجد، إلا ويُقرأ فيه كتاب ( رياض الصالحين ) الذي ألفه النووي ـ رحمه الله ـ، في بعض هذه المساجد.
إن الذي بلغ بهذا الإمام هذا المبلغ، بعد توفيق الله ـ عز وجل ـ له وتسديده، وإخلاصه لله ـ عز وجل ـ فيما نحسب، أنه جعل الهم هماً واحداً، فأقبل بهمة عالية على طلب العلم، بدأت معه منذ طفولته، فقد ذكر المترجمون له أنه كان وهو ابن عشر سنين ببلده ( نوى )، والصبيان يُكرهونه ويجبرونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم وإجبارهم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فلم يكن ـ رحمه الله ـ يلتفت إلى ما يلتفت إليه أبناء سنه من اللهو واللعب، لئلا ينشغل عن القرآن.
حفظ هذا الإمام القرآن في سن الطفولة، ثم أقبل على طلب العلم الشرعي، وانقطع له انقطاعاً تاماً، حتى كان لا يضع جنبه على الأرض إلا قليلاً، وكان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، في مختلف العلوم والكتب، فبارك الله له في وقته، فكان لا يضيع من عمره ساعة في ليل أو نهار إلا في طلب للعلم، ونظر في المسائل، وعبادة، حتى إنه كان في ذهابه في الطريق يكرر أو يطالع.
          والذي يعرف العلم وقدره حق المعرفة، لا يستبعد مثل هذه الهمة فيه، والتضحية لأجله، فقد قال ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: (( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ))، أي: الذين يخافون الله حق الخوف هم أهل العلم بالشريعة، وورد في فضل العلم الحديث العظيم الذي يقول فيه نبينا محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ: (( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )).
          هذا الذي دفع الإمام ـ رحمه الله ـ، إلى الانقطاع للعلم، فإنه بعد تحصيله قدراً عظيماً من العلوم، انشغل بالتأليف والنصح للمسلمين، مع الإقبال على العبادة، فألف كتباً جليلة، ما زال الناس ينتفعون بها إلى يومنا هذا، ومن أشهر كتبه: الأربعون النووية، رياض الصالحين، شرح صحيح مسلم، الأذكار، المنهاج، الروضة، المجموع، وغيرها، وهي كتب كثيرة، حتى إن مجموع ما صنف في حياته، قسم على أيام عمره، فبلغ كراستين كل يوم، يقول تاج الدين السبكي ـ رحمه الله ـ: ( وهذا الإمام الرباني الشيخ محيي الدين النووي ـ رحمه الله ـ، وُزّع عمره على تصانيفه؛ فوجد أنه لو كان ينسخها فقط لما كفاها ذلك العمر، فضلاً عن كونه يصنفها، فضلاً عما كان يضمه إليها من أنواع العبادات وغيرها ). ولا عجب أن يصدر هذا الإنجاز العلمي الضخم، من رجل يريد عملاً صالحاً يقدم به على ربه ـ تبارك وتعالى ـ، وهو القائل:
أموت ويبقى كل ما قد كتبته *** فيا ليت من يقرا كتابي دعا ليا
لعل إلهي أن يمن بلطفه *** ويرحم تقصيري وسوء فعاليا.
          ولد هذا الإمام سنة 631 ه، وتوفي ـ رحمه الله ـ سنة 676 ه، وكانت حياته عامرة بالخير والبركات، مليئة بالنفع والطاعات، يقول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن: عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلى )).
          فمن حياة هذا الإمام نستفيد:
1ـ أن من أراد أن يصنع تاريخاً، ويحقق إنجازاً، فإنه ينبغي أن يجعل الهم هماً واحداً، وينقطع إليه بما يستطيع، ليتوصل بذلك إلى مطلوبه، وليجعل رضا الله غايته، يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ *** أعني طريق الحق والإيمان
2ـ جلالة منزلة العلم الشرعي، الذي هو ذخر العبد في دنياه وأخراه، وفيه يقول الحكمي ـ رحمه الله ـ:
العلم أشرف مطلوب، وطالبه *** لله أكرم من يمشي على قدم
          فنسأل الله ـ عز وجل ـ أن يوفقنا جميعاً لطاعته، وأن يكرمنا بجنته، وأن ينجينا من ناره، وأن يحل علينا رضوانه، وصلى الله وسلم على نبينا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عمار سعيد خادم أحمد بن طوق المري

واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ـ هذه المقالة نشرت في جريدة البيان الإماراتية في الملحق الرمضاني 19 رمضان 1437

الأربعاء، 22 يونيو 2016

سلسلة ( المعنى الإجمالي ) 6/ 6: إخلاص العمل لله

إخلاص العمل لله

أولاً: النصوص القرآنية والنبوية الواردة:

1ـ يقول الله ـــ عز وجل ـــ: (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ))[1].
2ـ ويقول ـــ سبحانه ـــ: (( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ))[2].
3ـ عن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سمعت رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يقول: (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )). متفق عليه[3].
4ـ وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: (( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ))، وأشار بأصابعه إلى صدره. رواه مسلم[4].
5ـ وعن أبي موسى الأشعري ـــ رضي الله عنه ـــ قال: سئل رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )). متفق عليه[5].
6ـ وعن جابر بن عبد الله ـــ رضي الله عنهما ـــ، قال: كنا مع النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في غزاة، فقال: (( إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض )) وفي رواية: (( إلا شركوكم في الأجر )). رواه مسلم[6].

ثانياً: المعنى الإجمالي:

        إخلاص العمل لله ـــ عز وجل ـــ هو أحد شرطي قبول الأعمال، فإن العمل الذي يصدر من المسلم، لا يكون مقبولاً عند الله ـــ عز وجل ـــ إلا إذا اجتمع فيه أمران: أولهما: الإخلاص لله ـــ عز وجل ـــ، وذلك بأن يعمل العمل يريد بذلك وجه الله ـــ تبارك وتعالى ـــ، فلا يعمله للدنيا، لا لجاه، ولا لمنصب، ولا لمال، ولا لأجل نظر الناس، إنما يريد به الله والدار الآخرة. وثانيهما: موافقة الشرع، أي: أن يعمل العمل على وفق هدي النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ. فكما أن الإنسان إذا عمل العمل بلا إخلاص لا يكون عملاً مقبولاً؛ بدلالة النصوص المتقدمة، فكذلك من أخلص لله في عمل على غير هدي النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، لا يكون مقبولاً كذلك، بل هو عمل مردود، لقول الله ـــ عز وجل ـــ: (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ))[7]، ولحديث أمنا أم المؤمنين عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ، أن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يقول: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )). رواه البخاري ومسلم[8]، وفي رواية لمسلم[9]: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))، ولهذا كان أحسن العمل الذي اختبرنا الله به: أخلصه وأصوبه، فالعمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
        ولما كان العامل إذا عمل العمل لوجه الله يعد موحدًا في قصده مخلصاً، كان من يعمل العمل وفي نيته شائبة مراعاته لنظر الناس يعد مشركاً في قصده مرائياً، فالرياء من الشرك الأصغر، كما قال النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ لصحابته الكرام ـــ رضي الله عنهم ـــ: (( إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر ))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: (( الرياء، يقول الله ـــ عز وجل ـــ إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟! ))[10]. فالرياء يحبط العمل، ويضيع الأجر، ويُحِلُّ محله الوزر.
وكما أن العامل المجتهد في عمله، يرد عمله عليه، إذا فقد الإخلاص، فكذلك المخلص لله ـــ عز وجل ـــ، المريد لوجهه، إذا صدق في إرادته العمل الصالح ليتقرب به إلى الله، لكنه لم يعمله، لعذر من الأعذار: فإنه يعطى بنيته الأجر والثواب، فمن كان من أهل صلاة الجماعة، يصلي صلاته لله، ولم يستطع أن يذهب إلى المسجد لمرض أو غيره من الأعذار الشرعية، فإن الله ـــ عز وجل ـــ يعطيه أجر صلاة الجماعة، لما علم من صدق عبده معه، ولهذا أخبر النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ الصحابة، بأن في المدينة أناساً يشركونكم الأجر، مع أنهم ليسوا معكم، وذلك لما قام في قلوبهم من الرغبة في العمل الصالح لله، إلا أنه حبسهم العذر.
فنسأل الله ـــ عز وجل ـــ أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الرياء والزلل، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، أجمعين.



[1] سورة: البينة، الآية: 5.
[2] سورة: آل عمران، الآية: 29.
[3] صحيح البخاري، برقم: 1، ورقم: 6689. صحيح مسلم، برقم: 5036.
[4] صحيح مسلم، برقم: 6707.
[5] صحيح البخاري، برقم: 7458. صحيح مسلم، برقم: 5029.
[6] صحيح مسلم، برقم: 5041، ورقم: 5041.
[7] سورة: الشورى، الآية: 21.
[8] صحيح البخاري، برقم: 2697. صحيح مسلم، برقم: 4589.
[9] صحيح مسلم، برقم: 4590.
 [10] رواه البيهقي في شعب الإيمان، برقم: 6412. قال الألباني ـــ رحمه الله ـــ: ( إسناده جيد ). السلسلة الصحيحة، 951.

سلسلة ( المعنى الإجمالي ) 5/ 6: لا يعلم الغيب إلا الله

لا يعلم الغيب إلا الله

أولاً: النصوص القرآنية والنبوية الواردة:

1ـ قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (( إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور ))[1].
2ـ وقال ـ سبحانه ـ : (( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ))[2].
3ـ وقال : (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا ))[3] [4].
4ـ وقال ـ عز وجل ـ : (( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ))[5].
5ـ وقال ـ عز مِن قائل ـ : (( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ))[6].
ومفاتح الغيب خمسة؛ فسرها ـ سبحانه ـ بقوله :
6ـ (( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ))[7].
7ـ عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما تغيض الأرحام[8] إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرُ أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله )) رواه البخاري[9].
8ـ عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : من حدثك أنه ـ تعني : النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيب إلا الله. رواه البخاري ومسلم[10].
ولفظ مسلم : قالت : من زعم أنه يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول : (( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله )) .

ثانياً : المعنى الإجمالي :

          إن من الأصول الشرعية، التي قام عليها دين الإسلام؛ أنه لا يعلم الغيب إلا الله ـ عز وجل ـ، فلا يعلم الغيب أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ولا ساحر ولا كاهن ولا عراف ولا جني، إنما يختص الله ـ عز وجل ـ بعلمه، إلا أن الله ـ تبارك وتعالى ـ أطلع من ارتضاه للرسالة، دون غيرهم من البشر، على ما شاء من الغيب، وليس على الغيب كله، وهذا الغيب هو الغيب الحقيقي الذي يغيب عن الحواس والعقول كلها.
أما ما يغيب عن بعض المخلوقين دون بعض؛ فهذا يسمى الغيب النسبي، ولا يدخل في النصوص السابقة[11].
ولترسيخ هذا المعنى في نفوس الناس؛ أبطل الإسلام كل طريق يدَّعي البشر أنهم يعلمون الغيب الحقيقي من خلاله.
فأبطل الإسلام إتيان الكهان والعرافين؛ الذين يخبرون عن المغيبات في المستقبل، أو يخبرون عما في الضمير، فعن إحدى أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( من أتى عرافاً فسأله عن شيء؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً[12] )) . رواه مسلم[13] . وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد )). رواه أبوداود[14].
ومن ذلك النظر في الأبراج، وقراءة الكف، وقراءة الفنجان، استدلالاً بذلك على مستقبل الإنسان؛ من سعادة أو شقاوة، إلى آخر الأنواع التي اختلقها البشر يدَّعون بها التوصل إلى علم الغيب الذي اختص الله ـ عز وجل ـ به.
وأبطل الإسلام التطير ـ كذلك ـ، والطِّيَرة شيء يعرض على القلب بسبب شيء يحدث أمامه، يجعله ـ مثلاً ـ لا يقدم على الأمر الذي كان عازماً عليه، مثل: أن يرى الإنسان غراباً أو حادث سيارة أو خصومة بين اثنين؛ فيقول: لن أوفق اليوم في تجارتي أو في سفرتي، فيترك العمل، أو يؤجل السفر، فهذا من الطيرة، عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الطير شرك، الطيرة شرك )) ثلاثاً . رواه أبو داود[15]. ورواه الترمذي[16] وصححه، ولفظه : (( الطيرة من الشرك)) . وعن عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك )) . قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : (( أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك )) . رواه أحمد[17].
فالواجب على المسلم؛ أن يبتعد عن كل طريق من طرق استكشاف المستقبل، والاطلاع على المغيبات؛ سوى طريق الكتاب والسنة، فإن ما عدا الوحي؛ أوهام وخرافات، ينبغي للإنسان أن ينزه عقله عن الهبوط إليها، وأن يتجنب كل سبيل من سبل إغواء الشياطين للبشر.
نسأل الله ـ عز وجل ـ بمنه وكرمه وإحسانه؛ أن يَهَبَنا كمال التوكل عليه، والتسليم لشرعه، والانقياد لأوامره، وأن يجنبنا سبل الضلال والغواية، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.





[1] فاطر 38.
[2] النمل 65.
[3] الجن 26ـ28.
[4] قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. زاد المسير، 8/385، المكتب الإسلامي.
[5] آل عمران 179.
[6] الأنعام 59.
[7] لقمان 34.
[8] قال قتادة وابن عباس: أي: ما تسقط قبل التسعة الأشهر. انظر ـ هذا القول والأقوال الأخرى ـ : تفسير القرطبي، 12/17، مؤسسة الرسالة.
[9] صحيح البخاري ـ كتاب التوحيد ـ باب قول الله ـ تعالى ـ : (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا )). ـ حديث رقم 7379.
[10] صحيح البخاري ـ كتاب التوحيد ـ باب قول الله ـ تعالى ـ : (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا )). ـ حديث رقم 7380. صحيح مسلم ـ كتاب الإيمان ـ باب معنى قول الله ـ عز وجل ـ : (( ولقد رآه نزله أخرى )) وهل رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه ليلة الإسراء ـ حديث رقم 177.
[11] انظر في ذلك ـ على سبيل المثال ـ: كلام ابن أبي جمرة . فتح الباري لابن حجر 13/365.
[12] قال النووي ـ رحمه الله ـ : وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ـ 14/227 ـ دار الفكر.
[13] صحيح مسلم ـ كتاب السلام ـ باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان ـ حديث رقم 2230.
[14] سنن أبي داود ـ كتاب الكهانة والتطير ـ باب في الكهان ـ حديث رقم 3904.
[15] سنن أبي داود ـ كتاب الكهانة والتطير ـ باب في الطيرة ـ حديث رقم 3910.
[16] جامع الترمذي ـ أبواب السير عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باب ما جاء في الطيرة ـ حديث رقم 1614.
[17] مسند الإمام أحمد بن حنبل 2/220.

سلسلة ( المعنى الإجمالي ) 4/ 6: التوبة إلى الله ـ عز وجل ـ

التوبة إلى الله

أولاً: النصوص القرآنية والنبوية الواردة:

1ـ يقول الله ـــ عز وجل ـــ: (( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ))[1].
2ـ ويقول ـــ سبحانه ـــ: (( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ))[2].
3ـ عن الأغر بن يسار المزني ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: (( يا أيها الناس ! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة )). رواه مسلم[3].
4ـ وعن أبي موسى الأشعري ـــ رضي الله عنه ـــ، عن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قال: (( إن الله ـــ تعالى ـــ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها )). رواه مسلم[4].
5ـ وعن أنس بن مالك ـــ رضي الله عنه ـــ، أن رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قال: (( لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب )). متفق عليه[5].
6ـ وعن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــ قال: قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: (( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه )). رواه مسلم[6].
7ـ وعن عبد الله بن عمر ـــ رضي الله عنهما ـــ، عن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قال: (( إن الله ـــ عز وجل ـــ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب[7].

ثانياً: المعنى الإجمالي:

       إن الله ـــ تبارك وتعالى ـــ، الذي خلقنا وخلق السماوات والأرض، الذي هو أهل ـــ سبحانه ـــ أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، لم يحرم من عصاه، وفرّ منه، من أن يرجع إليه ويتوب، ويقبل عليه ويؤوب، بل فتح له باب التوبة، وأمره بها، وحثه عليها، فقد أمرنا ـــ سبحانه ـــ أن نتوب إليه جميعاً، وبين أن أهل الإيمان هم المنتفعون بهذه الوصية، وأن الفلاح الذي هو الخير والفوز في الدنيا والآخرة معلق بالتوبة، ثم إنه ـــ سبحانه ـــ لم يترك العباد من غير بيان التوبة التي ينبغي أن يتوبوا بها، بل بين أن العبرة بالتوبة النصوح، وهي التوبة الخالصة الصافية، التي لم يمازجها ما ينقضها ويبطلها، وذلك بأن يأتي التائب بشروطها.
        وشروط التوبة في الذنوب التي بين العبد وربه ثلاثة شروط: شرط يتعلق بالماضي، وشرط يتعلق بالحاضر، وشرط يتعلق بالمستقبل، وهذه الشروط هي: الندم على ما فات، والإقلاع حالاً عن الذنب الذي هو واقع فيه، والعزم على عدم العودة إلى الذنب مرة أخرى. فإن كان هذا الذنب من الذنوب التي بين العبد والناس، صارت الشروط أربعة، الثلاثة المتقدمة، وشرط رابع، وهو: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كان هذا الحق مالاً أعاده إليه، وإن كان تكلم عنه بسوء تحلله أو أثنى عليه، بحسب المناسب للحال، وهكذا[8].
        والله ـــ عز وجل ـــ يقبل توبة التائبين، فقد تاب ـــ سبحانه ـــ على قاتل المئة نفس، حين علم صدقه في التوبة[9]، وتاب ـــ سبحانه ـــ على من أتى بما هو أعظم من القتل، وهو الكفر والشرك، فتاب على من دخل الإسلام فصحب النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، ممن كانوا كفرة مشركين، فأصبحوا خير خلق الله أجمعين، بعد الأنبياء ـــ عليهم أفضل الصلاة والتسليم ـــ، وفوق قبوله للتوبة، يفرح بها ـــ سبحانه ـــ، مع غناه عنها، وحاجتنا نحن إليها، وقد مثّل لنا النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ حال رجل أعرابي فقد راحلته التي عليها طعامه وشرابه، في أرض فلاة، فلما أيس منها، جلس إلى شجرة ينتظر الموت، فنام، فلما استيقظ، وجد الراحلة وعليها الطعام والشراب، فأخذ بخطامها، ثم قال: ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )، أخطأ من شدة الفرح، يقول النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: (( فالله ـــ عز وجل ـــ أفرح بتوبة عبده المسرف، من ذلك الرجل براحلته حين وجدها ))[10].
        وكما أن الله ـــ عز وجل ـــ يقبل توبة التائبين، ويفرح بأوبة الآيبين، إلا أن الله ـــ سبحانه ـــ جعل لها حدًا تنتهي التوبة إليه، ولا تقبل بعده، وهذا الحد ينقسم إلى قسمين: الأول: حد عام لكل الخليقة، وهو: طلوع الشمس من مغربها، فعند ذاك لا يقبل الله ـــ عز وجل ـــ توبة أحد، وثانيهما: حد خاص يختلف من فرد إلى فرد، وهو: الغرغرة، أي: بلوغ الروح الحلقوم، ففي هاتين الحالتين، يغلق باب التوبة عن العبد.
        فاللهم وفقنا للتوبة النصوح، وتقبلها منا، وتجاوز عنا خطأنا وإسرافنا وتقصيرنا، وأدخلنا الجنة برحمتك، ونجنا من عذابك.
        وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، أجمعين ...





[1] سورة: النور، الآية: 31.
[2] سورة: التحريم، الآية: 8.
[3] صحيح مسلم، برقم: 7034.
[4] صحيح مسلم، برقم: 7165.
[5] صحيح البخاري، برقم: 6439. وصحيح مسلم، برقم: 2464.
[6] صحيح مسلم، برقم: 7036.
[7] جامع الترمذي، برقم: 3537. وقال الألباني في صحيح جامع الترمذي: ( حسن ).
[8] انظر في شروط التوبة: رياض الصالحين، للإمام النووي ـــ رحمه الله ـــ، صفحة: 46 ـ 47، طبعة المكتب الإسلامي.
[9] رواه البخاري، برقم: 3470. ومسلم، برقم: 7184. كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري ـــ رضي الله عنه ـــ.
[10] أصلها في الصحيحين: البخاري، برقم: 6309. من حديث أنس ـــ رضي الله عنه ـــ. ومسلم، برقم: 7128. وهذا اللفظ موجود ـــ مثلاً ـــ في مسند أبي يعلى، برقم: 7285.