الثلاثاء، 21 يونيو 2016

سلسلة ( شباب صنعوا التاريخ ) 2/ 5: ( عبد الله بن عمر رضي الله عنهما )

عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد روى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه عبد الله، أنه قال: ( كان الرجل في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا رأى رؤيا قَصَّهَا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكنتُ غلاماً عَزَبَاً شاباً، فكنت أنام في المسجد، فرأيت كأنَّ ملكين أتياني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، ولها قرون كقرون البئر، فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقيَنا ملك، فقال: لن تُراع.
فذكرتها لحفصة، فقصتها حفصة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: (( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل )) )، قال: ( فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا القليل ).
          ما أكثر ما نسمع المواعظ والآيات، والنصائح والإرشادات، فنتأثر بها لحظتها، ثم نغفل عن العمل بها، أما صاحب النفس الوثابة، كهذا الصحابي ـ رضي الله عنه ـ وأمثاله، فإنهم يبادرون إلى العمل بمقتضى ما سمعوه، ويجاهدون أنفسهم ليستمروا عليه، فهذا المشهد، فيه الهمة العظيمة، والرغبة الكبيرة، عند هذا الشاب، الذي اندفع بعد سماع الوصية إلى العمل بما دلت عليه، فجاهد نفسه على عمل صالح شاق على النفوس، وهو قيام الليل، وحقق مع ذلك خصلة أعظم من الأولى، وهي الاستمرار على هذا الإنجاز، فإن المحافظة على الإنجاز أعظم من الإنجاز نفسه، كما قيل.
          ومن علو همة ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ رغبته في الجهاد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحرصه على نصرته له، على حداثة سنه، فقد عُرض ـ رضي الله عنه ـ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر فاستصغره، ورده مع غيره من صغار الصحابة، ثم عرض عليه مرة أخرى في أحد فاستصغره ورده كذلك، ثم عرض عليه غزوة الخندق، وكان ابن خمس عشرة سنة، فقبله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ ورضي الله تعالى عنه ـ.
          ففي هذه الحادثة علو الهمة، مع الاستمرار والإصرار ـ أيضاً ـ، وكل عمل لابد فيه من إرادة تدفع إلى العمل به، وإلى الاستمرار عليه بعد ذلك.
وكان ـ رضي الله عنه ـ عالي الهمة في كل أمر من أموره، ففي مقام البذل والإنفاق، كان ربما اقترض بألفي درهم، فيرجعها بزيادة مئتي درهم، وكان يؤتى بالعشرين ألفاً يُهداها فما يقوم من مقامه حتى يوزعها، بل كان ربما جلس المجلس ففرق فيه على الناس ثلاثين ألفاً، ثم يأتي عليه الشهر ما يأكل فيه مزعة لحم، من كمال بذله للناس، وتوسعته عليهم، مع تقتيره على نفسه، وسمو همته، يقول بعض من دخل بيته: ( قوَّمت كل شيء في بيته من أثاث ما يسوى مئة درهم ).
ومن علو همته ـ رضي الله عنه ـ أنه كان متتبعاً لآثار نبي الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لا يسمع بقول أو عمل عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا اتبعه، وبادر إليه، حتى إن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يروي عن بعض من لقيه أنه أخبر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه: ( كان يتَّبع أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وآثاره، وحاله، ويهتم به، حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك )، ومن مشهور مواقفه ما رواه نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( لو تركنا هذا الباب للنساء ))، قال نافع: ( فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات )، بل قال محمد العُمَري ـ رحمه الله ـ: ( ما سمعت ابن عمر ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بكى ).
هذه الهمة العالية، التي صحبها ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وصحبته، واستشرف لها واستشرفت له، بقيت ملازمة له حتى آخر عمره، فإنه لما احتضر ـ رضوان الله تبارك وتعالى عنه ـ قال: ( ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا )، فهذا الذي يتحسر على مفارقته من الدنيا، لا على حطامها وزخرفها.
          فمن هذه المواقف العطرة، نتعلم أن الهمة العالية، هي من أعظم سبل تحقيق المطالب، والوصول إلى الرغائب، وتحصيل الأمر المحبوب، والنجاة من المرهوب، فمن أقبل على أمر قصده بعلو همة، فأحرى به وأجدر أن يصل إليه، ولا ينقطع عنه، ومن أقبل على الأمر المهم بدنو همة، فأحرى به وأجدر أن ينقطع عنه، ولا يصل إليه، والموفق من وفقه الله.
وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه وعن أبيه ـ، أسلم وهو صغير، وهاجر مع أبيه، وهو من المبايعين تحت الشجرة، الذين قال الله فيهم: (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة ))، وأخته هي حفصة، أمنا أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ، مات سنة ثلاث وسبعين، وبلغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، ومجموع حديثه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ( في مسند بَقِيٍّ ألفان وست مئة وثلاثون حديثاً بالمكرر ). كما يقول مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ.
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين ،،،

عمار سعيد بن طوق المري

واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ـ هذه المقالة نشرت في الملحق الرمضاني بجريدة البيان الإماراتية 1437 ه عن طريق دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق