الثلاثاء، 21 يونيو 2016

سلسلة ( شباب صنعوا التاريخ ) 1/ 5: ( ابن عباس رضي الله عنهما )

ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
          الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لرجل من الأنصار: ( هلم نسأل أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنهم اليوم كثير )، فقال هذا الأنصاري: ( واعجباً لك يا ابن عباس ! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ترى ؟! )، فترك هذا الأنصاري الفكرة، وأقبل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ على أكابر أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يسألهم عن العلم، فكان يبلغه الحديث عن الرجل منهم أنه يحدث به عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيذهب إليه، فربما وجده في قيلولة، فلا يوقظه، بل يتوسد رداءه على الباب ينتظره، فتسفي الريح عليه التراب، حتى يكون صاحب البيت هو الذي يخرج إليه بنفسه، فيسأله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن الحديث من أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
          من هذا الموقف، نستشف خصالاً جليلة، تحلَّى بها هذا الصحابي الشاب، الذي دعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فمنها:
1ـ استغلال الفرصة، فإنه حرص على الإقبال على سؤال الأكابر من الصحابة، لأنهم اليوم كثر، كما قال، أي: فينبغي أن نستغل فرصة وجودهم، ونبادر إلى التعلم منهم.
2ـ النظرة المستقبلية التي كانت لديه، فإنه رأى أنهم اليوم كثير، لكنهم سيقلون ولابد، وكثير منهم من الأشياخ، وهو ما زال شاباً.
3ـ علو الهمة، فإنه طلب أجل الأمور وأعلاها، وأرفعها وأسناها، وهو العلم بالشريعة، الذي هو من أعظم أسباب خيرية الأمة، وعلوها على غيرها من الأمم.
4ـ الحرص على أن لا يكون وحده في ميدان الخير، بل أراد أن يحصل لغيره هذا الفضل، ويكون معيناً له على المسألة في العلم.
5ـ عدم الالتفات إلى المثبطين، فإنه لما لم يجد تجاوباً من صاحبه الأنصاري، بل وجد مع ذلك تثبيطاً، حيث قال له صاحبه: ( واعجباً لك يا ابن عباس ! ) إلى آخر ما قال، انطلق في ما عزم عليه، وأقبل على شأنه، وأعرض عن تثبيط هذا الصاحب.
6ـ معرفة قدر الأكابر، ومعرفة شأن العلم، فإن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع كونه أخذ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة، إلا أنه لم يستقل بعلمه، ولم ير نفسه في غنى عن الاستزادة من العلم، بل أقبل على الأكابر والأشياخ، وعلى كل من عنده حديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسمعه من قبل، فتلقاه عنه، وانتفع به.
7ـ كمال أدبه مع من يأخذ عنهم، فإن الصحابي الذي يأخذ القيلولة، لو قيل له إن بالباب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد أن يسأل عن حديث، لأقبل عليه، تعظيماً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لقرابة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ منه، وإجلالاً لطالب العلم، إلا أنه آثر كمال التأدب، ليستطيب قلب معلمه، ليحصل منه بذلك على كمال الفائدة.
8ـ عظم صبره ـ رضي الله عنه ـ على العلم، فإنه صبر وتحمل في الطلب، حتى بلغ مبلغاً عظيماً، فما المبلغ الذي وصل إليه ؟ وما حال صاحبه الأنصاري ؟
          بلغ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في العلم مبلغاً عظيماً، حتى إنه لقب بحبر الأمة، وبحرها، ورَبَّانِيِّها، وفقيه العصر، وإمام التفسير، وترجمان القرآن، وكان ـ رضي الله عنه ـ من أهل مشورة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، يقدمه في أخذ المشورة على كثير ممن هم أكبر منه سناً، يقول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: ( ما رأيت أحداً أحضر فهماً، ولا أَلَبَّ لُبَّاً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً، من ابن عباس، لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لَأَهْلُ بدر ).
وقد بلغ مجموع ما روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من الأحاديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألف وست مئة وستون حديثاً ).
وفي العقود التي عاشها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تتابعت وفاة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وطال عمر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وكثر علمه، واحتاج الناس إليه، فاجتمع الناس حوله اجتماعاً عظيماً، وقُصد من أقطار الأرض، وكان موكبه يُضَاهَى بموكب الخليفة معاوية ـ رضي الله عنه ـ في الحج.
يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ( فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: ( هذا الفتى أعقل مني ) )، يعني: الرجل الأنصاري، الذي تقدم خبره مع ابن عباس، حيث عاش هذا الرجل، فرأى نتيجة عزم ابن عباس وتصميمه على بلوغ غايته وتحقيق هدفه، وكيف أنه لم يحصل مثله على هذا الخير، لعدم أخذه بنصيحة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
ولد ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قبل الهجرة بثلاث سنين، وصحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحواً من ثلاثين شهراً، دعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحكمة، والفقه، وتأويل القرآن ـ أي: تفسيره ـ، توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعمر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ثلاث عشرة سنة، وتوفي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ سنة سبع أو ثمان وستين، وقد قيل: إنه عاش إحدى وسبعين سنة. فرحمه الله رحمة واسعة، ورضي عنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين ،،،

عمار سعيد بن طوق المري

واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ـ هذه المقالة نشرت في الملحق الرمضاني بجريدة البيان الإماراتية 1437 ه عن طريق دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق