الاثنين، 27 يونيو 2016

سلسلة ( شباب صنعوا التاريخ ) 3/ 5: ( الإمام النووي ـ رحمه الله ـ )

الإمام النووي ـ رحمه الله ـ.
         
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن إمامنا الإمام النووي، أبا زكريا يحيى بن شرف ـ رحمه الله ـ: إمام عظيم بلغ المنزلة العالية في قلوب الناس، خاصتهم وعامتهم، يقول عنه التاج السبكي ـ رحمه الله ـ: ( شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين ). ويقول عنه مؤرخ الإسلام الذهبي ـ رحمه الله ـ: ( وكان أوحد زمانه في الورع، والعبادة، والتقلل، وخشونة العيش، والأمر بالمعروف ).
كانت حياة هذا الإمام عجباً من العجب، فقد كان عالي الهمة شريفها، مثابراً في العلم وتحصيله، والعمل به وتعليمه، والتصنيف فيه، فبلغ مبلغاً عظيماً، حتى عرفه عامة الناس إلى زماننا هذا، وما زال الناس ينتفعون بعلمه، ولا يكاد بلد من بلدان العالم فيه مساجد، إلا ويُقرأ فيه كتاب ( رياض الصالحين ) الذي ألفه النووي ـ رحمه الله ـ، في بعض هذه المساجد.
إن الذي بلغ بهذا الإمام هذا المبلغ، بعد توفيق الله ـ عز وجل ـ له وتسديده، وإخلاصه لله ـ عز وجل ـ فيما نحسب، أنه جعل الهم هماً واحداً، فأقبل بهمة عالية على طلب العلم، بدأت معه منذ طفولته، فقد ذكر المترجمون له أنه كان وهو ابن عشر سنين ببلده ( نوى )، والصبيان يُكرهونه ويجبرونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم وإجبارهم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فلم يكن ـ رحمه الله ـ يلتفت إلى ما يلتفت إليه أبناء سنه من اللهو واللعب، لئلا ينشغل عن القرآن.
حفظ هذا الإمام القرآن في سن الطفولة، ثم أقبل على طلب العلم الشرعي، وانقطع له انقطاعاً تاماً، حتى كان لا يضع جنبه على الأرض إلا قليلاً، وكان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، في مختلف العلوم والكتب، فبارك الله له في وقته، فكان لا يضيع من عمره ساعة في ليل أو نهار إلا في طلب للعلم، ونظر في المسائل، وعبادة، حتى إنه كان في ذهابه في الطريق يكرر أو يطالع.
          والذي يعرف العلم وقدره حق المعرفة، لا يستبعد مثل هذه الهمة فيه، والتضحية لأجله، فقد قال ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: (( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ))، أي: الذين يخافون الله حق الخوف هم أهل العلم بالشريعة، وورد في فضل العلم الحديث العظيم الذي يقول فيه نبينا محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ: (( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )).
          هذا الذي دفع الإمام ـ رحمه الله ـ، إلى الانقطاع للعلم، فإنه بعد تحصيله قدراً عظيماً من العلوم، انشغل بالتأليف والنصح للمسلمين، مع الإقبال على العبادة، فألف كتباً جليلة، ما زال الناس ينتفعون بها إلى يومنا هذا، ومن أشهر كتبه: الأربعون النووية، رياض الصالحين، شرح صحيح مسلم، الأذكار، المنهاج، الروضة، المجموع، وغيرها، وهي كتب كثيرة، حتى إن مجموع ما صنف في حياته، قسم على أيام عمره، فبلغ كراستين كل يوم، يقول تاج الدين السبكي ـ رحمه الله ـ: ( وهذا الإمام الرباني الشيخ محيي الدين النووي ـ رحمه الله ـ، وُزّع عمره على تصانيفه؛ فوجد أنه لو كان ينسخها فقط لما كفاها ذلك العمر، فضلاً عن كونه يصنفها، فضلاً عما كان يضمه إليها من أنواع العبادات وغيرها ). ولا عجب أن يصدر هذا الإنجاز العلمي الضخم، من رجل يريد عملاً صالحاً يقدم به على ربه ـ تبارك وتعالى ـ، وهو القائل:
أموت ويبقى كل ما قد كتبته *** فيا ليت من يقرا كتابي دعا ليا
لعل إلهي أن يمن بلطفه *** ويرحم تقصيري وسوء فعاليا.
          ولد هذا الإمام سنة 631 ه، وتوفي ـ رحمه الله ـ سنة 676 ه، وكانت حياته عامرة بالخير والبركات، مليئة بالنفع والطاعات، يقول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن: عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلى )).
          فمن حياة هذا الإمام نستفيد:
1ـ أن من أراد أن يصنع تاريخاً، ويحقق إنجازاً، فإنه ينبغي أن يجعل الهم هماً واحداً، وينقطع إليه بما يستطيع، ليتوصل بذلك إلى مطلوبه، وليجعل رضا الله غايته، يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ *** أعني طريق الحق والإيمان
2ـ جلالة منزلة العلم الشرعي، الذي هو ذخر العبد في دنياه وأخراه، وفيه يقول الحكمي ـ رحمه الله ـ:
العلم أشرف مطلوب، وطالبه *** لله أكرم من يمشي على قدم
          فنسأل الله ـ عز وجل ـ أن يوفقنا جميعاً لطاعته، وأن يكرمنا بجنته، وأن ينجينا من ناره، وأن يحل علينا رضوانه، وصلى الله وسلم على نبينا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عمار سعيد خادم أحمد بن طوق المري

واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي

ـ هذه المقالة نشرت في جريدة البيان الإماراتية في الملحق الرمضاني 19 رمضان 1437

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق