الثلاثاء، 21 يونيو 2016

سلسلة ( تأملات في كلمات قرآنية ) 4/ 4: ( كان أمة )

(( كان أمة )) [ النحل: 120 ]

        كلمة ( أمة ) من الكلمات التي يختلف معناها باختلاف سياقها الذي ذكرت فيه، وهذه الكلمة وردت في القرآن على خمسة معان:
        1ـ الجماعة، ومنه قول الله: (( تلك أمة قد خلت ))[1]. أي: جماعة مضت وذهبت.
        2ـ الملة، ومنه قول الله: (( كان الناس أمة واحدة ))[2]. أي: أهل دين واحد وهو التوحيد.
        3ـ الحين، ومنه قول الله: (( وادكر بعد أمة ))[3]. أي: تذكر يوسف ـ عليه السلام ـ بعد حين من الزمن.
        4ـ الصنف، ومنه قول الله: (( ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ))[4]. أي: أصناف وأنواع.
        5ـ الإمام، ومنه قول الله: (( إن إبراهيم كان أمة ))[5]. أي: إماماً يقتدى به[6].
        والكلمة التي نتناولها في هذه المقالة، هي كلمة أمة، بمعناها الأخير، الذي وصف الله به إبراهيم ـ عليه السلام ـ.
        إن الإمامة في الدين، بمعنى أن يكون الإنسان قدوة في الخير، بحيث يبلغ من خصال الخير أعلاها، فيكون بذلك محل اقتداء وتأس من غيره؛ منزلة عظيمة، لا ينالها إلا من وفقه الله ـ تبارك وتعالى ـ، وقد بلغ إبراهيم ـ عليه السلام ـ هذه المنزلة، لهذا خاطبنا الله ـ عز وجل ـ بقوله: (( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ))[7]. بل أوحى إلى سيد الأولين والآخرين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: (( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ))[8]، أي: دينه، وهو التوحيد.
        وما دام الله ـ عز وجل ـ قد جعل إبراهيم ـ عليه السلام ـ إماماً يقتدى به، وأمرنا أن نتبعه؛ فالمطلوب منا أن نتتبع سنته وهديه، وخصاله الكريمة، فنتعلمها، ونعمل بها، وقد جمعت الآية السابقة وما بعدها مجموعة من هذه الصفات.
        يقول الله ـ عز وجل ـ: (( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكرًا لأنعمه ... ))[9].
        فوصفه بأنه بلغ الإمامة، بحيث أصبح محل اقتداء وتأس، في صفات الهدى، وخصال الخير، بأقواله وأفعاله.
        ووصفه بأنه قانت لله، أي: مطيع لله ـ تبارك وتعالى ـ، خاشع له، منقاد لأوامره امتثالاً، ولنواهيه اجتناباً، مقيم على الطاعة.
        ووصفه بأنه حنيف، أي: مائل عن الشرك إلى التوحيد، فجعل قلبه معلقاً بالله ـ تبارك وتعالى ـ، لم يصرف شيئاً من أقواله وأعماله، لا الظاهرة ولا الباطنة، لغير الله ـ عز وجل ـ، وأكد هذا المعنى بقوله: (( ولم يك من المشركين )).
        ولهذا لما ألقي في النار؛ تعلق بالله وحده، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله ـ عز وجل ـ له بردًا وسلاماً، فلم تجعله المصيبة العظيمة، يتعلق بغير الله ـ سبحانه ـ.
        ووصفه بأنه شاكر لأنعم الله، وهذه من الخصال التي يحبها الله، فالله يحب من عبده إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها، بل إن مفهوم الشكر مفهوم واسع، فإنه يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح، فيعترف لله بالفضل، ويسخر جوارحه في طاعة الله، ويحجزها عن معصية الله.
        وهذه الخصال السابقة، وغيرها من خصاله ـ عليه السلام ـ، ينبغي للإنسان أن يتأسى به فيها، بقدر وسعه وطاقته، حتى يصل إلى بعض ما وصل إليه، فيحصل له بعض ما حصل له، في الدنيا والآخرة، فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: ( إن معاذًا كان أمة قانتاً لله حنيفاً، أتدري ما الأمة ؟ وما القانت ؟، الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله ورسوله، وكذلك كان معاذ )[10].


ـ هذه المقالة نشرت في الملحق الرمضاني بجريدة البيان الإماراتية 1435 هـ






[1] سورة: البقرة، الآية: 134.
[2] سورة: البقرة، الآية: 213.
[3] سورة: يوسف، الآية: 45.
[4] سورة: الأنعام، الآية: 38.
[5] سورة: النحل، الآية: 120.
[6] انظر: نزهة الأعين النواظر في الوجوه والنظائر، لابن الجوزي، 143 ـ 144.
[7] سورة: الممتحنة، الآية: 4.
[8] سورة: النحل، الآية: 123.
[9] سورة: النحل، الآية: 120 ـ 121.
[10] أخرجه ابن جرير الطبري، في تفسيره لهذه الآية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق