السبت، 22 ديسمبر 2018

نبذة عن كتاب ( مفتاح دار السعادة ) ضمن برنامج ( حديث الأربعاء ) لدائرة الشؤون الإسلامية ـ المادة الصوتية والكتابية


نبذة عن كتاب ( مفتاح دار السعادة ) لابن القيم رحمه الله تعالى
ضمن برنامج ( حديث الأربعاء ) من برامج دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي لعام 2016م


المادة الصوتية:

https://safeshare.tv/submit?url=https%3A%2F%2Fyoutu.be%2FTmM6Q1LwC1s&link=


المادة الكتابية ـ أصل للمادة الصوتية:


          الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
          فهذه إطلالة سريعة، على كتاب ( مفتاح دار السعادة )، للإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ، نتعرف فيها عن قرب على هذا المورد العجاب، والعذب المنساب.
          ونبدأ بذكر مؤلفه الإمام الجليل/ ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ
          فابن القيم ـ رحمه الله ـ، هو الإمام المعروف، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرَعي الدمشقي الحنبلي، المشهير بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمئة من الهجرة النبوية.
          ومن المفيد ـ هنا ـ: التنبيه على خطأ شائع في قراءة شهرة هذا الإمام، فهو إما ( ابن القيم )، أو ( ابن قيم الجوزية ). ولا يصلح أن يقال: ( ابن القيم الجوزية ). وذلك أن القيم هو القائم بالشؤون، كالمسؤول والمدير، والجوزية اسم مدرسة، فقيم الجوزية هو القائم بشؤون هذه المدرسة، فلا يصلح أن يقال ـ مثلًا ـ: ابن المدير المدرسة، وإنما يقال: ابن المدير، أو: ابن مدير المدرسة. فهكذا في ابن القيم، لا يقال ابن القيم الجوزية، وإنما يقال: ابن القيم، أو: ابن قيم الجوزية.
          يقول الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في ذكر وصفه لابن القيم ـ رحمه الله ـ: ( وكان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة، إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له والانطراح بين يديه وعلى عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا، ولا أعرفَ بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه ). قال: ( وحج مرات كثيرة، وجاوز بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمرًا يتعجب منه )[1].
          ويقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ: ( لا أعرف في هذا العالَم في زماننا أكثر عبادة منه ). وقال: ( ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان؛ فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك ).
          وهنا سؤال: لماذا اخترتُ في هذا التقديم وهذا التعريف بالمصنف النقلين السابقين في وصف عبادته ـ رحمه الله ـ ؟
          وجواب ذلك: أن فيهما بيان العلم النافع، الذي تحصَّل عليه ابن القيم ـ رحمه الله ـ، حتى أثَّر فيه هذا التأثير العظيم، الذي ظهر على قوله وعمله.
          فما هذا العلم النافع ؟: ما فضله ؟ ما حقيقته ؟ ما صفته ؟ كيف يتحصل عليه الإنسان ؟ وكيف يتأثر به ؟
          جواب هذه الأسئلة: هو موضوع كتابنا اليوم، في برنامجنا لهذا اليوم: وهو كتاب: ( مفتاح دار السعادة ).
          فنحن أمام شخصية: أصابت حقيقة ما تحدثنا عنه، وتدلنا عليه، وترشدنا إليه، في هذا الكتاب.
          عنوان هذا الكتاب: ( مفتاح دار السعادة ومنشور وَلاية العلم والإرادة ).
          وقد نمَّق ابن القيم ـ رحمه الله ـ اسم كتابه هذا، على طريقته في تنميق أسماء كتبه؛ تشويقًا للناظر في العنوان إلى أن ينظر في الكتاب، وينتفع به، وهذه عادة له ـ رحمه الله ـ، فمن كتبه ـ مثلًا ـ:
          ـ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
          ـ زاد المعاد في هدي خير العباد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ.
          ـ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ( الجنة ).
          ـ إعلام أو أعلام الموقعين عن رب العالمين ( الفتوى ).
          ـ إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان.
          وهذا الكتاب جار على هذا المنوال ( مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ).
المفتاح معروف. ودار السعادة، هي: الجنة. والمنشور، هو: ما يكتبه السلطان من إقطاعات أو توليات لبعض الناس. والوَلاية، هي: الرئاسة. والعلم، هو: العلم بالكتاب والسنة. والإرادة، هي: المحبة، التي تحرك الإنسان، وتدفعه إلى العمل الصالح.
          فالكتاب ـ من خلال عنوانه ـ يدل على أنه أراد ذكر العلم النافع، والعمل الصالح:  اللذين هما وسيلة الدخول إلى دار السعادة، التي هي الجنة.
          فابن القيم ـ رحمه الله ـ أراد أن يجعل كتابه قائمًا على هاذين الأصلين: العلم، والعمل. لكنه في واقع الأمر بدأ بالكلام عن العلم، فوجد الكتاب قد طال جدًا، فجعل الذي كان يريد أن يجعله القسم الأول من الكتاب: هو الكتاب نفسه، فاكتفى به، وألغى القسم الثاني. ثم عاد إلى مقدمة كتابه فأضاف عليها فقرة ذكر فيها أنه سيفرد الإرادة بكتاب خاص، وقد وفى ـ رحمه الله ـ، فألف كتابه الكبير في المحبة، وله ـ كذلك ـ كتاب صغير مطبوع في المحبة، سماه: روضة المحبين.
          فموضوع هذا الكتاب ـ كتاب ( مفتاح دار السعادة )، الذي نتحدث عنه اليوم ـ بناء على ما تقدم ـ هو: ( العلم ).
          يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في أول كتابه هذا: ( فحق على من كان في سعادة نفسه ساعيًا، وكان قلبه حيًا عن الله واعيًا: أن يجعل على هاذين الأصلين مدار أقواله وأعماله، وأن يُصَيِّرَهما آخِيَّتَه التي إليها مفزعه في حياته ومآله ).
          والآخية عود يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه ويصير وسطه كالعروة تشد إليه الدابة، فالفرس المربوط بالآخية أينما تحرك يمينًا أو شمالًا: فإنه يرجع إلى هذه الآخية المربوط فيها. فكذلك العبد ينبغي أن يكون هذان الأصلان المرجعَ له، والمدارَ الذي يدور عليه.
          فلندخل ـ بعد هذه المقدمة ـ إلى لب الكتاب، على طريق ذكر أمثلة من الوجوه التي ذكرها ـ رحمه الله ـ، من أوجه فضل العلم وأهله.
          وقد ذكر ـ رحمه الله ـ في هذا الكتاب أكثر من مئة وخمسين وجهًا.
فمن أوجه فضل العلم وأهله:
1ـ بل أجلُّها على الإطلاق: أن الله ـ عز وجل ـ استشهدهم دون غيرهم على أجل مشهود عليه، وهو توحيده ـ سبحانه ـ، فقال ـ عز من قائل ـ: (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط )).
فأجل مشهود عليه: توحيد الله ـ تبارك وتعالى ـ. الذي هو إفراده ـ سبحانه ـ وحده بالعبادة. الذي بعث الله كل نبي به، كما قال ـ سبحانه ـ: (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ))، (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )). هذا التوحيد: خص الله ـ عز وجل ـ من بين البشر ـ أهلَ العلم، ليكونوا شهداء عليه.
2ـ وقرن شهادتهم بشهادته ـ سبحانه ـ، (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط )).
3ـ وقرن شهادتهم بشهادة الملائكة ـ عليهم السلام ـ، (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط )).
4ـ وفي ضمن ما تقدم: تزكيتُهم وتعديلهم، فإن الله ـ عز وجل ـ لا يستشهد من خلقه إلا العدول، ومن هذا المعنى: ما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (( يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )).
5ـ وفي ضمن ذلك ـ أيضًا ـ: أنه وصفهم بأنهم: أولوا العلم، (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط ))، وهذا الوصف يدل على اختصاصهم به، وأنهم أهله وأصحابه، ليس هذا الوصف مستعارًا لهم.
6ـ ومن أوجه فضل العلم التي ذكرها ـ رحمه الله ـ: أنه ـ سبحانه ـ نفى التسوية بين أهله وبين غيرهم، كما نفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقال ـ تعالى ـ: (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ))، كما قال ـ سبحانه ـ: (( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة )). وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم.
7ـ ومن أوجه فضل العلم: أنه ـ سبحانه ـ أمر بسؤالهم، والرجوع إلى أقوالهم، وجعل ذلك كالشهادة، فقال ـ سبحانه ـ: (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )). وأهل الذكر، هم: أهل العلم بما أنزل على الأنبياء.
وهنا لطيفة تتعلق بهذه الآية، وهي: أن الله ـ عز وجل ـ أمر بسؤال أهل الذكر إن كنا لا نعلم، فإذا علمنا فلا نحتاج إلى سؤالهم، فما معنى العلم ـ هنا ـ ؟ العلم هو أن نفهم كلام الله وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ ومراد نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فنفهم كلام الله على مراد الله، ونفهم كلام نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مراده، وإذا وقعت لنا الواقعة، أو عُرضت علينا المسألة: تكلمنا فيها بحكم الله ـ تبارك وتعالى ـ قطعًا أو اجتهادًا. فهذه هي حقيقة العلم. فإذا حققنا العلم، من خلال النظر في نصوص الشريعة إفرادًا وتركيبًا على قواعد الفقه وأصوله ولغة العرب التي نزل بها الوحي: حققنا هذا العلم، فلم نحتج إلى أن نسأل أهل العلم، وإلا فالواجب علينا السؤال، وهو حال أكثر الناس.
فالمراد بهذا التنبيه: بيان أن بعض الناس يظن أن معنى إن كنتم لا تعلمون: إن كنتم ليست لكم عقول، أو إن كنتم لا تستطيعون التفكير، فيقول: أنا عندي عقل وأستطيع التفكير فأتكلم في الحلال والحرام من عندي، وهذا ليس بصواب، فإن الناس كلهم ـ إلا المجانين ـ عندهم عقول ويستطيعون التفكير، فلو كان هذا هو المراد بالآية: لما كان للآية من داعٍ إذًا، ولكان من حق كل أحد يتكلم في الدين بما شاء، وهذا ممتنع.
فالعلم أن تعرف حكم الله لا حكمك أنت، وحكم الله يعرف بالوحي، بنظر صحيح فيه، على أصول وقواعد مستقرة محررة.
8ـ ومن أوجه فضل العلم: أنه ـ سبحانه ـ أخبر أنهم أهل خشيته، بل خصهم من بين الناس بذلك، فقال ـ تعالى ـ: (( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور )). وهذا حصر لخشيته في أولي العلم.
فمعنى الآية: أن العلماء دون غيرهم هم الذين يخشون الله ـ عز وجل ـ.
وقال ـ تعالى ـ: (( جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه )).
وقد أخبر في الآية الأولى أن أهل خشيته هم العلماء
فهذا الجزاء المذكور في الآية الثانية، يكون: للعلماء؛ بمجموع النصين.
وقد قال ابن مسعود ـ رضي الله تعالى ـ عنه: ( كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا ).
9ـ ومن أوجه فضل العلم: أنه ـ سبحانه ـ شهد لمن آتاه العلم بأنه قد آتاه خيرًا كثيرًا، فقال ـ تعالى ـ: (( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا )). قال ابن قتيبة والجمهور ـ رحمهم الله ـ: الحكمة: إصابة الحق والعمل به.ا.ه. وهي العلم النافع، والعمل الصالح.
10ـ ومن أوجه بيان فضل العلم بشريعة الله ـ كذلك ـ: قوله ـ سبحانه ـ: (( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )). فندب الله ـ تعالى ـ المؤمنين إلى التفقه في الدين، وهو تعلمه، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، وهو التعليم.
وقد اختلف في الآية:
ـ فقيل: النفير نفير تعلم. وهذا اختيار الشافعي وجماعة.
ـ وقيل: النفير نفير جهاد، وفرقة تقعد لتتعلم وتعلم الطائفة التي نفرت عند عودتها. وهذا قول الأكثرين.
وعلى القولين، فهو: ترغيب في التفقه في الدين، وتعلمه، وتعليمه، وأن ذلك يعدل الجهاد، بل ربما يكون أفضل منه.
11ـ ومن الأوجه التي ذكرها ـ رحمه الله ـ في بيان فضل العلم: ما قاله محمد بن شهاب الزهري ـ شيخ الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ـ رحم الله الجميع، أنه قال: ( ما عُبد الله بمثل الفقه في الدين ).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وهذا الكلام ونحوه يراد به: أنه ما يُعبد الله بمثل أن يتعبد بالفقه في الدين، فيكون نفس التفقه عبادة، كما قال معاذ بن جبل: ( عليكم بالعلم، فإن طلبه لله عبادة ). وقد يراد به: أنه ما عُبد الله بعبادة أفضل من عبادة يصحبها الفقه في الدين، لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات، ومفسداتها، وواجباتها، وسننها، وما يكملها، وما يُنقصها. وكلا المعنيين صحيح.
12ـ ومن أوجه فضل العلم كذلك: ما ورد في حديث الثلاثة الذين انتهوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في حلقة، فأعرض أحدهم، واستحى الآخر فجلس خلفهم، وجلس الثالث في فُرجة في الحلقة؛ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه )).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: فلو لم يكن لطالب العلم إلا أن الله يؤويه إليه، ولا يعرضُ عنه: لكفى به فضلًا.
13ـ ومن أوجه بيان فضل العلم التي ذكره الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ما ثبت عن بعض السلف أنه قال: ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ). وسأل رجل أم الدرداء عن أبي الدرداء ـ بعد موته ـ عن عبادته ؟ فقالت: ( كان نهارَه أجمع في ناحيةٍ يتفكر ). وقال الحسن: ( تفكر ساعة خير من قيام ليلة ). وقال الفضيل: ( التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك ). وكان سفيان بن عيينة كثيرًا ما يتمثل: ( إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عبرة ). وقال الحسن في قوله ـ تعالى ـ: (( سأصرف عن آياتيَ الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )). قال: ( أمنعهم التفكر فيها ). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ( ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب ). وقال: ( التفكر في الخير يدعو إلى العمل به ).
          ولما ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ: التفكر؛ نبه على عظيم شأن تدبر القرآن، وجليل قدر النظر في الملكوت. وتكلم عن الحكم التي في هذا الكون بكلام طويل بديع عجيب، فيه فوائد ولطائف. فالقرآن هو الكتاب المسطور، والكون هو الكتاب المنظور. القرآن فيه الآيات المسموعة، والكون فيه الآيات المشهودة. فكل منهما فيه الآيات والحكم والعبر، التي تقود الفطن اللبيب العاقل إلى الانقياد لأمر خالقه، والسعي في إرضائه، والعمل بما يحبه ـ سبحانه ـ.
          أما النظر والتفكر في القرآن، فقد قال الله ـ عز وجل ـ فيه: (( أفلا يتدبرون القرآن ))، وقال ـ سبحانه ـ: (( أفلم يدبروا القول ))، وقال: (( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ))، وقالـ (( إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون ))، وقال ـ عز من قائل ـ: (( كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون )).
          فتبارك الله جعل كلامَه حياة للقلوب، وشفاءً لما في الصدور.
          ولا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه.
          فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية هو محتاج إليها في شفاء قلبه؛ كررها، ولو مئة مرة، ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن.
          وهذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قام بآية يرددها حتى الصباح، وهي قوله: (( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم )).
          فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب
          ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ( لا تهذوا القرآن هذ الشعر، ولا تنثرون نثر الدَّقَل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب ). والدقل رديء التمر ويابسه.
          وقال ـ رضي الله عنه ـ: ( اقرؤوا القرآن، وحركوا به القلوب، لا يكن هم أحدكم آخر السورة ).
          وروى أيوب، عن أبي جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: ( لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ ).
          فالقرآن أنزل ليُتدبر ويتفكر فيه ويعمل به، لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه، قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: ( أُنزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملًا ).
          ما تقدم هو في النظر والتفكر في القرآن
          وأما النظر والتفكر في الآيات الكونية، فقد قال الله . عز وجل ـ: (( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ))، وقال ـ سبحانه ـ: (( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ))، وقال ـ عز من قائل ـ: (( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ))، وقال ـ جل شأنه ـ: (( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ))، ويقول ـ سبحانه ـ: (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ))، وقال ـ عز شأنه ـ: (( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )) إلى قوله: (( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره )). ونوع سبحانه الآيات في هذه السورة ـ سورة الروم ـ:
          فجعل خلق السماوات والأرض واختلاف لغات الأمم وألوانهم آيات للعالمين كلهم؛ لاشتراكهم في العلم بذلك، وظهوره ووضوح دلالته.
          وجعل خلق الأزواج التي يسكن إليها الرجال، وإلقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون، فإن سكون الرجل إلى امرأته وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم أمر باطن مشهود بعين الفكرة والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك؛ دله فكره على أنه الإله الحق المبين، الذي أقرت الفطر بربوبيته وإلهيته وحكمته ورحمته.
          وجعل المنام بالليل والنهار والتصرفَ في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون، وهو سمع الفهم وتدبر هذه الآيات وارتباطها بما جعلت آية له مما أخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم، وقيامهم من قبورهم كما أحياهم ـ سبحانه ـ بعد موتهم وأقامهم للتصرف في معاشهم، فهذه الآية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل، وأصغى إليه، واستدل بهذه الآية عليه.
          وجعل إراءتهم البرق وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به آيات لقوم يعقلون؛ فإن هذه أمور مرئية بالأبصار، مشاهدة بالحس، فإذا نظر فيها ببصر قلبه ـ وهو عقله ـ استدل بها على وجود الرب ـ تعالى ـ وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته وإمكان ما أخبر به من إحياء الخلائق بعد موتهم كما أحيا هذه الأرض بعد موتها.
          وهذه أمور لا تدرك إلا ببصر القلب ـ وهو العقل ـ؛ فإن الحس دل على الآية، والعقلَ دل على ما جُعلت آية له، فذكر ـ سبحانه ـ الآية المشهودة بالبصر، والمدلول عليه المشهود بالعقل، فقال: (( ومن آياته يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )).
          نعيد فنقول: تبارك الله الذي جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء لما في الصدور.
          أيها الأحبة: هذه إطلالة سريعة، ولمحة موجزة عن هذا الكتاب: كتاب ( مفتاح دار السعادة ومنشور وَلاية العلم والإرادة ) للإمام أبي بكر الزُّرَعي، المعروف بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمئة للهجرة، رحمه الله تعالى، تطرقنا فيها إلى التعريف بهذا الإمام، وذكر شيء من تصانيفه، وبيان المراد من هذا الكتاب، وذكرنا منتقيات لطيفة من صلب الكتاب، تدلنا على باقيه، فإذا أردت كمال الانتفاع؛ فعليك بالرجوع إلى الكتاب الأصلي، فكما قيل: ( ومن ورد البحر استقل السواقيا ).
          واللهُ ـ سبحانه ـ المسؤول، والمرغوب إليه المأمول: أن يجعل مجلسنا هذا خالصًا لوجهه الكريم، مقربًا إليه في جنات النعيم، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، إنه قريب مجيب.
          والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                                أعده/ عمار سعيد خادم أحمد بن طوق المري
واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي


[1] ذيل طبقات الحنابلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق